بعد أسبوعين من الآن تكون الحرب على غزة قد أكملت 300 يوما من العدوان المتواصل برا وبحرا وجوا، مع اقتراب عدد الشهداء من 40 ألف شهيد، و 10000 مفقودا، وعدد لا يمكن إحصاؤه من الجرحى والمصابين، ومئات الآلاف من النازحين والمشتتين. ويُجزم غالبية المحللين حول العالم بأن نتائج هذه الحرب الثقيلة سوف تحدد مستقبل إقليم الشرق الأوسط، وستعيد صياغة موازين القوى فيه و ستحدد مستقبل تحالفات ما قبل السابع من أكتوبر.
ثمة عوامل مختلفة وإدارات متصارعة ستحدد مستقبل هذه الحرب، ومن ثم مستقبل المشرق العربي بأكمله، منها إرادة فصائل المقاومة الفلسطينية، وإرادة مؤسسات الاحتلال الأمنية والسياسية، وإرادة الراعي الرئيس للاحتلال في الولايات المتحدة الأمريكية وأخيرا إرادة قوى محور المقاومة ومن خلفها الإدارة السياسية في طهران.. فأين العرب من دائرة التأثير في لحظة مفصلية مثل هذه سوف تحدد الكثير من ملامح مستقبل منطقتهم الأمني والسياسي، وهل باتت الدول العربية مجتمعة خارج دائرة التاريخ؟
رأي التحرير
مضى من الوقت الكثير على بداية الحرب لتتضح أمامنا بشكل جلي خريطة مواقف الدول العربية، ففي الوقت الذي ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بالتعاطف والتآزر الشعبي مع حملات التأييد والمناصرة وجمع التبرعات وغيرها من صور التضامن، كان الموقف العربي الرسمي مخزيا أو غائبا في أحسن الأحوال.
على صعيد أهم دول الجوار والطوق، اكتفت مصر بتصريحات دبلوماسية باهتة تدعو لوقف إطلاق النار، ورفضت القيام بأي ضغط سياسي حقيقي لوقف الحرب ولو كان مجرد التهديد أو التلويح بوقف العمل بمعاهدة السلام مثلا أو قيادة موقف عربي موحد لوقف عمليات التطبيع. ولكن في المقابل ضاعفت مصر من استيرادها للغاز الطبيعي الإسرائيلي أثناء الحرب، وزادت من اعتمادية السوق المحلي على غاز إسرائيل بعد تراجع الإنتاج المحلي في الشهور الأخيرة. كما تعاملت السلطات المصرية بقسوة أمنية شديدة مع أي محاولة للتضامن الشعبي واختراق الحظر الأمني المفروض على التظاهر والاحتجاج ولو كان ضد سياسات الاحتلال وليس ضد سياسات النظام.
كما كان لافتا للنظر مدى الضعف الذي اعترى موقف النظام المصري من قيام إسرائيل باحتلال محور فيلادلفيا الحدودي بين البلدين، بما يمثل خرقا لاتفاقية السلام والملاحق الأمنية الخاصة بها. لدرجة أن صحيفة “معاريف” قد كشفت مؤخرا أن الجيش “الإسرائيلي” يقوم بعمليات توسعة لمنطقة محور “فيلادلفيا”، كما أنشأ موقعا عسكريا في الأيام الأخيرة غرب المحور، كمنشأة عسكرية لبعض قواته العاملة في المنطقة، في غياب تام للموقف المصري!
وفي الأردن؛ عمدت السلطات إلى احتواء الغضب الشعبي، وتفريغه في مسارات لا تهدد أمن الاحتلال، فسمحت بالتظاهرات أمام المساجد وفي الميادين، بينما وقفت بحزم تجاه أي محاولة للوصول للحدود مع الكيان الصهيوني، كما لم تسمح بأي محاولة من قبل المتظاهرين لاختراق السياج الأمني حول سفارة الكيان. من جانب آخر؛ استمرت عمليات التبادل التجاري مع الاحتلال في الانتعاش والتصاعد مع استمرار خط الإمداد البري في العمل باتجاه إسرائيل.
الأكثر إيلاما، هو أن خمس دول عربية: الإمارات ،مصر، الأردن، المغرب، والبحرين، قد زادت من تجارتها مع “إسرائيل” خلال فترة الحرب على غزة! بل وضاعف بعضها حجم التجارة خلال الحرب مقارنة بما قبلها، بحسب ما تكشفه بيانات رسمية “إسرائيلية”. وقد استحوذت الإمارات وحدها على %81.4 من الحجم الكلي لصادرات الدول العربية إلى “إسرائيل” خلال الحرب، في حين زادت مصر والأردن من تعاملاتهما الاقتصادية مع “إسرائيل” خلال الحرب مقارنة بما قبلها، وفقا لتقارير صحفية.
وبرغم الآثار الدموية للحرب، لم تتخل المملكة العربية السعودية عن خطة التطبيع مع الاحتلال، ولا زالت التصريحات الرسمية تؤكد أن المملكة عازمة على التطبيع إذا ما توافرت شروطه التي تتعلق بالأساس بالاتفاق الأمني مع الولايات المتحدة، مع إعطاء المملكة ما يحفظ ماء وجهها عربيا بوعد إقامة الدولة الفلسطينية، ولو مجرد وعد في الهواء.
ثم ماذا بعد الحرب؟ لقد بات مؤكدا أنه وبصرف النظر عن التصريحات الرسمية فإن كلا من مصر والأردن والإمارات قد أبدوا استعدادهم للمشاركة مع الولايات المتحدة ضمن قوات مشتركة لإدارة القطاع فيما يعرف بخطة “اليوم التالي”، وهذا خلافا لإرادة قوى المقاومة وخلافا لمصلحة الشعب الفلسطيني أن لا تتحول قطعة مهمة أراضيه لساحة دولية منزوعة السيادة والإرادة.
بعد هذا كله؛ فإن إجابة سؤال لماذا وصل الموقف العربي إلى هذا المستوى من العجز وغياب التأثير، في أحسن الأوصاف، فضلا عن الخيانة والمشاركة في الحصار، تبدو واضحة إلى درجة كبيرة، فغياب الإرادة السياسية والارتهان للضغوط الخارجية سبب رئيس لهذه الحالة المتردية.
طوفان الأقصى قدم برهانا لا يدع مجالا للشك أن المنطقة العربية بحاجة إلى التغيير السياسي كمقدمة ضرورية لكافة مجالات التغيير، ومقدمة لازمة للتحرر من الاحتلال، فإن مهمة تحرير فلسطين في ظل أنظمة عربية متخاذلة ومتواطئة مع الاحتلال وقامعة لحركة شعوبها تبدو مهمة عسيرة للغاية! كما يبدو التغيير والحرية السياسية وكف يد سلطات القمع الأمنية مهمة ضرورية للغاية أيضا من أجل مستقبل أفضل للعرب!