يقول: “نحن الأصل.. نحن الشجاعية.. أنا أبو رامي النعيزي”..
كلّما تذكرتُ ذلك الحيّ تشعرُ أصابعي بالندى على زجاج كأس الخروب البارد وسط سوقها الجميل، وبرعشة القلب تلك وهي تتنفس تحت الماء، أظنها كانت تعلّمني كيف ألتقطُ الهواء دون تذمّرٍ في الزحام الكبير، شارع عمر المختار الطويل الذي حين أمشي في آخر رواقه أجد سوق الشجاعية الأكبر، وقبله مفترق لأكثر من شارع أتذكر مدارس وطلاب مازالت كركرات ضحكهم تغمر المدينة، ومعلمات يُسْرِعْن في الطريق وهن يراودنَ الجرس المدرسيّ في الفترة المسائية قبل أن يدق، وهنالك بين بسطاته الشعبية المترفة تطوف العرائس وهنَّ يتجهّزن لزفافهن، خجل الفتيات وفرح الأمهات وأهازيج الباعة وهم يسوّقون لبضاعةٍ نعرف الآن تماماً بأنّها لن تبور.
السلام عليك يا أبا رامي النعيزي.. ها نحن نتذكرك جيداً، إننا رأينا وجهكَ وأنت تقاوم صواريخهم بكلماتك القليلة تلك أثناء نزوحك، طفنا عبر عيونك على ركام الشجاعية وحزنها الطويل وفرسانها الأشدّاء، وعرفنا كيف ينطق الرجال أسماءهم في لحظاتٍ فارقة من العمر، ليخبرونا بطريقةٍ ما يستصعبون سواها: “تذكّروا أسماءنا، لا تنسونا”.
لم يعد اسمك غائباً عن ذاكرتنا الفلسطينية، إنّه حالة من الألم العميق، إنّه يطوف الأرض حاملاً علبه الفارغة بين يديه وعيونه الدامية، يهمس في أذن الحجارة والأنهار والبحار والجبال وفي كل ذرة عبر المجرات الكونية: “لقد حملتُ بيديَّ أشلاء الشهداء، ورأيتُ كيف يتحول بيتي إلى كومة من ركام، آثرتُ ألّا أبرح الشجاعية في شمال القطاع لأنها البيت، وأنا أتألم خارج بيتي، انتصاري الذي أتوجع به هو أنني أريد أن أموت في بيتي”.
لقد تجاوز صوتك وقوفه وحيداً تحت الركام، مثلما فعلت غزّة وهي تتجاوز انعزالها وحيدة كنقطة دم ساخنة جدّاً على الخارطة الكبيرة الباردة، لقد حفظنا وجهك القادم من الموت والعابر للأزمنة والأمكنة، الواقف في منتصف مجلس الأمن يهزأ باجتماعاتهم الهزيلة، وقبل أن يرتفع يد فيتو وقف الحرب يتوقف الميكرفون عن العمل، ويعلو صوتك: “نحن الأصل، أنا أبو رامي النعيزي”.
وفي كل اجتماع للجامعة العربية لم يستطع أن يفعل شيئاً من أجلنا، وقبل أن يأخذوا صورة توثيقية أخيرة وقبل أن يقرؤوا بيانهم الأخير، يتوقف الزمن ويعلو صوتك فوق أسماعهم” “نحن الأصل، أنا أبو رامي النعيزي”.
وفي كل سيلفي لجندي إسرائيلي وهو يخبر عشيقته: “فجّرتُ مئات البيوت بالديناميت الأسود، نهشنا لحومهم وبيوتهم، الآن يمكنكِ أن تقفي على شباك بيتك في إحدى مستوطنات غلاف غزة لتستمتعي برؤية البحر”، وقبل أن يتمكن من إرسال الفيديو يتعطل الإنترنت ويعلو الصوت ذاته “نحن الأصل، أنا أبو رامي النعيزي”.
مَنْ أنت؟ كيف استطاع صوتك أن يتخللنا تماماً، فندرك كيف تتحول فلسطين إلى صورة مثل صورة فارس عودة أمام الدبابة، وكيف تتحول فلسطين إلى صوت مثل صوتك وأنت تقول: “نحن الأصل، أنا أبو رامي النعيزي”. قف وقل اسمك مرة أخرى، إنّه يتجلى كحقل قمح في قلوبنا وحواسّنا ولكنه سيتحول إلى لعنة أبدية تلاحق المحتلّ إلى الأبدْ..
السلام عليك وعلى الشجاعية وعلى كل ذرة تراب في شمال قطاع غزّة .