فنون
الأمر كان يبدو وكأنني سافرت إلى عالم آخر وزمن آخر، وأنا أعيش أجواء جميلة وساحرة وخلّابة، حيث هذا ما شعرت به وأنا أشاهد الفيلم الإيطالي العظيم “الفهد”. إنه مختلف عن أي فيلم آخر، بروحه وأسلوبه وطريقة انسيابه في العقل والقلب.
يمكنني أن أصف هذا الفيلم مثل ما أصف لكم زيارتي لمتحف عريق، فمشاهدته أشبه برحلة لا تُنسى في ربوع متحف يعجّ بالآثار والتحف والفن والتاريخ، وقد استمتعت بهذه الرحلة المدهشة، التي ثقّفتني فنّيًا وتاريخيًّا وسينمائيا. لم أستغرب حين علمت أن هذا الفيلم هو الفيلم المفضّل لدى المخرج الكبير “مارتن سكورسيزي”، ويعتبره مصدر الإلهام له كصانع أفلام حين شاهده وهو فتى مراهق.
الكاتب “جوزيبي توماسي دي لامبيدوزا“، الذي يعتبر من الأرستقراطيين النبلاء في صقلية، كتب الرواية من صميم قلبه حول جده الأكبر، ولم يكن هناك مخرج أفضل من “لوتشينو فيسكونتي”لتولي مهمة إخراج الفيلم لكونه أيضًا ينتمي لطبقة الأرسقراطيين ومن أقرباء “لامبيدوزا”.
لكن هناك مسألة مهمة. من سيؤدي دور البطولة في الفيلم؟ يجب أن يكون ممثلًا إيطاليًّا أصيلًا والأفضل أن يكون من الأرستقراطيين. لم يحدث هذا الأمر. شركة فوكس الأمريكية اشترطت على المخرج “فيسكونتي” إسناد دور البطولة لممثل أمريكي شهير من أجل تحقيق الأرباح وزيادة شعبية الفيلم، وإلّا فلن يتم تمويل الفيلم.
أصيب “فيسكونتي” بإحباط شديد، وشعر أن الفيلم سيتدمّر بوجود ممثل أمريكي، حيث سيقتضي الأمر أن تتم دبلجة حواراته لاحقًا من قِبَل ممثل إيطالي آخر، وهذا الأمر ليس بجديد أو غير مألوف في الأفلام الأوروبية، فقد شارك العديد من الممثلين الأمريكيين في أفلام إيطالية وأوروبية وتمّت دبلجة حواراتهم بالإيطالية، ولكن في هذا الفيلم بالتحديد يبدو الأمر غير منطقيًّا، لأنه ليس فيلم أكشن أو كوميدي، فهو فيلم إيطالي حتى النخاع، ويدور حول طبقة الأرسقراطيين في صقلية، والبطل هو أمير سالينا.
في نهاية المطاف تم إسناد دور البطولة للفنان الأمريكي “برت لانكستر“، واعتُبِر ذلك الأمر مهزلة لدى الإيطاليين، وكذلك المخرج “فيسكونتي”، الذي أثّر ذلك على علاقته معه أثناء التصوير الذي استمر لمدة 5 أشهر، ففي الأسابيع الأولى كان الوضع متوترًا بينهما، و”فيسكونتي” لم يكن لطيفًا مع “لانكيستر”، لأنه فُرِض عليه، وهذا ما جعل “لانكيستر” يواجهه أمام الجميع لتقبّل الأمر الواقع، ومن هنا أُعجِبَ “فيسكونتي” به وبشغفه وبحرصه على القيام بأفضل ما لديه، فأصبحت علاقتهما قوية ومتينة حتى اكتمال الفيلم.
حين عُرِض الفيلم لأول مرة في أمريكا، تم اقتطاع 40 دقيقة من مدته من قبل شركة فوكس، وقد شوّهوه بلا رحمة، وتمّت دبلجته للإنجليزية بشكل سيئ، وهذا الأمر أثار استياء “فيسكونتي” و”لانكيستر”. تخيّلوا أن “لانكيستر” هو ممثل أمريكي أدّى دوره، ثم تمّت دبلجة حواراته بالإيطالية، ثم مجدداً تمّت دبلجتها بالإنجليزية، وليس بصوته، بل بصوت ممثل آخر!!
صرّح “لانكستر“ بعد سنوات طويلة أنّ هذا الفيلم هو أفضل عمل له على الإطلاق، ويتذكر ما مرّ به حين طُلِب منه أداء دور أمير سالينا في الفيلم، ورفض بحجّة أن هذا الدور يخص ممثلًا إيطاليا أصيلًا، ولكن لا شيء يمكنه أن يمنع القدر، وتم اقتراح الدور على ممثل روسي، لكنه كان كبيرًا في السن، ثم تم اقتراح الدور على الفنان البريطاني الكبير “لورانس أوليفييه”، لكنه كان مشغولا. عادت الشركة مرة أخرى إلى “لانكيستر” لإقناعه بقبول الدور، وحين وافق أخيرًا، رفضه “فيسكونتي” قائلًا: أوه، لا! راعي بقر!”.
لأتحدث معكم الآن عن الفيلم بنسختة الكاملة الأصلية وغير المدبلجة،الذي عُرض لأول مرة في إيطاليا بعام 1963 ولاحقًا في مهرجان كان السينمائي، محقّقًا بالفوز بجائزة السعفة الذهبية بكل جدارة واستحقاق، وفي عام 1980 بعد 4 سنوات من وفاة المخرج “فيسكونتي”، أشرف المصور السينمائي “جوزيبي روتونو“ على عملية ترميم الفيلم، والحصيلة كانت فيلمًا مدته 185 دقيقة، والذي لا يزال أقصر من النسخة الأصلية التي تصل مدتها إلى 205 دقائق.
تم إصدار الفيلم قبل سنوات من قبل شركة كرايتيريون المختصة في الأفلام النخبوية والمميزة، وذلك بنسخة بلوراي رائعة ومرمّمة كليًا بالصوت والصورة، ومن حسن حظي أنني شاهدت هذه النسخة، وهي أفضل نسخة موجودة في زمننا الحاضر.
تدور أحداث الفيلم في منتصف القرن التاسع عشر في جزيرة صقلية، المستقلة حديثًا من إيطاليا، حيث نرى الطبقة الأرستقراطية تحتضر وتتلاشى مع الزمن ولا تقوى على الاستمرار، ويتجسّد ذلك في أمير سالينا، “دون فابريتزيو”، الملقّب بـ “الفهد”. إنه يشاهدنهضة الفلاحين وارتقائهم اقتصاديًا، وهذا ما يشكّل تهديدًا لكل ما آمن به وعاش عليه هو وعائلته وأسلافه.
الفلاح السابق “دون كالوجيرو” أصبح في غاية الثراء والسلطة، وصار مصدر إلهام للفلاحين والشعب، والأمير “فابريتزيو” يرفض تماما المساعدة في بناء صقلية جديدة، لكن ابن أخيه “تانكريدي“، أمير فالكونيري، ينجرف مع التيار ويؤمّن مركزه الاجتماعي والسياسي بالزواج من “أنجليكا” الجميلة، ابنة “دون كالوجيرو“.
اتّضح في النهاية أن اختيار “لانكستر“ كان قرارًا موفّقًا وحكيمًا،فهو فنان موهوب ومبدع وفائز سابق بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل، وقد جسّد شخصية الأمير بشكل مذهل، كرجل متمسّك بأسلوب حياته ومدرك أن الأمر سينتهي. إنه أرستقراطي نبيل بالفطرة، ووُلِد لتكون له سلطة، ونحن ندرك شعوره حين نشاهده ويتحدث مع صديقه الكاهن“بيروني“.
في بداية الفيلم نرى مظاهر الحياة الأرستقراطية مع الأمير وزوجته وأبنائه وبناته، وهم في الكنيسة، وفي قصرهم الفخم، وفي رحلاتهم، ثم تصل الثورة التي قادها “غاريبالدي” إلى صقلية لتحريرها، وينضم“تانكريدي” للقتال، ليعود لاحقًا كجندي في جيش الحاكم الجديد “فيكتور إيمانويل”.
حين يصل الأمير إلى بلدة دونافوغوتا، يستقبله العمدة “دون كالوجيرو“، ذلك الفلاح إلى أصبح تاجرًا ثريًّا، والذي يشعر أن ثروته جعلته شخصًا مهمًّا، وهذا ما يجعل الأمير مرغمًا على التقرّب منه، إن كان الأمر يتطلّب إعلان الزواج الرسمي بين “أموال الفلّاح” و”عائلة الأمير”.
يقوم الأمير بدعوة “دون كالوجيرو” لتناول العشاء في قصره، ونشاهد على وجهه ملامح السعادة والذهول، بينما الأمير يشعر بالألم والغيظ. لم يحضر ذلك الفلاح زوجته المهترئة معه، بل ابنته الجميلة “أنجليكا“، التي تصقع “تانكريدي” والجميع بجمالها الآسر، ويصبح الأمر محتمًا على الأمير للمسارعة في ترتيبات زواج “تانكريدي” و”أنجليكا”.
الأمر المبهر في إخراج “فيسكونتي” والنص السينمائي الرهيب الذي كتبه مع 4 آخرين، ليس فيما هو مكتوب، بل فيما ما هو محسوس، بتعاطفنا مع الأمير دون أن ينطق بكلمة، ومشاركتنا معه ندمه وحسرتهعلى أسلوب حياته المتلاشي، والأمر المتعارف لدى الجميع في هذا العالم، قديمًا وحديثًا، هو أن الطبقة الأرستقراطية تستغل الطبقة العاملة، ولكن الأمير نفسه هو رجل فخور وصالح وطيب القلب، ويحترم العادات والتقاليد ويؤمن باستمراريتها، وهذه معضلته.
إنه رجل من الزمن العريق، كالذي نقرأ عنه في الروايات والقصص، وهو يتعبر “أنجليكا“ جذابة، مثلما يعتبرها “تانكريدي” كذلك، ولكن “فيسكونتي” برؤيته البصرية المذهلة ينقل لنا ذلك بحوارات وتلميحات روحية. إنه يوجه الممثلين للاستعانة بعيونهم، وإيماءة الرأس، وكل مفردات لغة الجسد.
لقد أبدع “برت لانكيستر” في تقمّص الشخصية، وقد أثبت موهبته أمام “فيسكونتي” والعالم أجمع، بالرغم من أنّ حواراته كانت مدبلجة بالإيطالية تماشيًا مع اللغة الناطقة للفيلم، إلّا أن ذلك لم يمنعه من التألّق في شخصيته. الأمر المثير للاهتمام هو أن البطلين الآخرين في الفيلم أيضًا تمّت دبلجة حواراتهما بالإيطالية، وأقصد بذلك الفنان الفرنسي الجميل “ألان ديلون”، الذي أدّى شخصية الأمير “تانكريدي” بإبداع، وهذا هو التعاون الثاني بينه وبين “فيسكونتي”، بعد الفيلم المأساوي “Rocco and His Brothers“، الذي يعتبر من الأفلام الإيطالية المهمة.
والبطلة الأخرى الفنانة “كلاوديا كاردينالي” أيضاً تمّت دبلجة حواراتها، بالرغم من أنها إيطالية من جهة والدها، إلّا أنها لا تجيد اللغة لكونها وُلدت وترعرعت في تونس، وعاشت مع والدتها الفرنسية، وقد كانت مناسبة جدًّا لشخصية “أنجليكا” وهي في قمة جمالها آنذاك، فقد أبدعت فعلًا. بقية الممثلين قدّموا أداءً جميلًا.
من أسرار روعة الفيلم كذلك الموسيقا التصويرية للمبدع “نينو روتا”، التي كانت ساحرة ورقيقة وخلّابة، وبشكل استثنائي لم أشعر أنها موسيقا تصويرية لموسيقار حديث، إذ كانت تبدو كالسيمفونيات الكلاسيكية العظيمة لـ “تشايكوفسكي” و”رخمانينوف” و”كورساكوف”، فقد أسرتني حقًّا.
الفيلم ككل يبدو وكأنه متحف سينمائي بأشخاصه وأشيائه، فمواقع التصوير والديكور كانت ساحرة، والأزياء في منتهى الروعة، وكذلك بقية الأمور الفنية الأخرى كالتصوير والمونتاج. من النادر أن أشاهد فيلمًا مدته تزيد عن 3 ساعات دون أي شعور بالملل، برغم بطءالأحداث، علمًا بأن هناك الكثير من الأشخاص الذين سيعتبرون هذه الفيلم خيبة أمل شديدة، فهو ليس فيلمًا للجمهور العام، بل لمن يشعرون بالفن ويتذوقونه بحُلوِه ومُرِّه. من المؤسف أن الفيلم لم ينل التقدير من جوائز الأوسكار، فقد ترشّح لنيل جائزة واحدة فقط لأفضل أزياء، ولكنه اليوم يحظى بتقدير معظم صنّاع الأفلام والنقّاد والجماهير النخبوية، كما أن المخرج الإيطالي المبدع “جوزيبي تورناتوري” يعتبره الفيلم المفضّل لديه على الإطلاق.
أهم وأجمل مشهد في الفيلم مدته تصل إلى 45 دقيقة، ويدور في قاعةحفلات كبيرة، وكان بالفعل مشهدًا مدهشًا ومؤثرًّا وآسرًا للحواس، ومن أقوى المشاهد في تاريخ السينما، فهو يلخّص فكرة الفيلم بأكملها، ولا يتضمن سوى حوارات محدودة.
الحفلة الراقصة هي آخر احتفال بهيج بالعصر الذي شارف على الموت، وقد أحضر “فيسكونتي“ أفرادًا فعليين من العائلات الصقلية القديمة النبيلة كضيوف في الحفلة، وفي وجوههم نرى تاريخا لا يمكن تمثيله، بل يتجسد من خلالهم. الأوركسترا تعزف لـ “فيردي“، والشباب والشابات يرقصون باستمرار وهو سعداء ومبتهجين، وكبار السن يراقبونهم بعناية، مع مؤامرات مستقبلية لعقود زواج محتملة.
الأمير يتحرك مثل الظل، والكاميرا تتبعه من غرفة إلى أخرى، وتدخلنا في أفكاره ورغباته وحزنه، و”فيسكونتي” واثق تمامًا أن “لانكيستر”يمكنه أن يجسّد كل مشاعر الأمير بنظراته وتعابيره وحركة جسمه، فيطيل المشهد حتى ننغمس فيه كليًا وننفصل عن الواقع.
في ذلك المشهد، يجعلنا “فيسكونتي” ندرك لماذا نحن نشاهد الأفلام. لقد خضنا وعشنا بما فيه الكفاية لنعرف شخصية الأمير وأفكاره، والآن ندخل، دون إدراك منّا، إلى مشاعره. السينما في أفضل حالاتها يمكن أن توهمنا بأننا نعيش حياة أخرى، وهذا ما يحدث هنا حقًّا.
عندما يرقص الأمير مع “أنجليكا“، نحن نشاهدهم وهما يرقصان،وندرك أمورًا كثيرة، نحن نعرفها، وهما يعرفانها. انظروا إليهما وهما يومئان برأسيهما، وكيف ينظران إلى بعضهما، وكيف ينظران إلى الآخرين، وكيف ينظر الآخرون إليهما.
رقصة الأمير معها هي اعتراف بالفناء والتلاشي. في ظروف أخرى، كان يمكن أن يحصل على هذه المرأة، ويعرف كيف سيتعامل معها، ويجعلها زوجته وأما لأبنائه، لو أنه عرفها في شبابه.
هل حقًّا لو كان شابًّا لتزوجها؟! لا أعتقد ذلك، لأنه الأمير “دون فابريزيو“ وهي ابنة الفلّاح. ما قدّمه لنا “فيسكونتي” في ذلك المشهد الطويل كان عبارة عن قنبلة عاطفية مدمّرة، تفجّرت داخل قلبه، وانتشرت شظاياها، ووصلت إلينا.