نشاهد ونسمع كل يوم صرخات المكلومين وأنات المقهورين وآهات المظلومين، وجع يعقبه وجع والألسن تلهج بالدعاء أن يطفئ الله الحرب ويعود المستضعفون بسلام إلى ما تبقى لهم من أطلال بيت أو ذكرى أحباء ارتقوا شهداء بقصف طائرة أو تفجير لغم، أو سقوط صاروخ أو رصاصة قناص جبان. قد يتسلل اليأس إلى قلوب البعض منهم ويسخط ويتذمر لهول ما شاهد وعاين بعينه، لكن سرعان ما يخضع ويستسلم لقضاء الله وقدره.
لا نستطيع الحكم على أهل غزة أنهم يئسوا، ولا رجعة لشعور الإحباط والخذلان الذي يعيشونه في كل لحظة، ألم وعذاب وقهر لا يمكن تصوره. فالإنسان يظل إنسانا له طاقة محددة، والقدرة على التحمل تختلف من شخص لآخر، محصلة كل ما يحدث هو البحث عن طريق للخروج من حرب لا ينوي العدو إنهاءها، بل يريد والشواهد تدلل على ذلك أن يوسعها ويبدأ حرباً جديدة على الجار اللبناني.
إذن طريق الخلاص يتمثل في كلمة واحدة (الصبر)، الصبر على الفقد، الصبر على مشاق العيش في بيئة خاوية من مقومات الحياة، الصبر على النزوح والهرب من الموت إلى المجهول، الذي يحمل في طياته احتمالات كثيرة، أولها مواجهة يوم مليء بالمصاعب والمكاره، والتفكير بأن الحياة غدت ضيقة بما رحبت بلا خيارات، فقد يظن ضعاف النفوس أن الاحتلال من يصنع مصير كل إنسان غزي، لكن في حقيقة الأمر والذي ننظر إليه كمسلمين أن الأمر كله بيد الله وحده سبحانه، لا بيد مخلوق ضعيف عاجز لا يملك من أمره شيء، يمهله العظيم ويمد له في الحبل حتى إذا أخذه لم يفلته.
الأمل في عدالة السماء لا يتزعزع في قلب وضمير كل إنسان حر شريف محب لأرض فلسطين، يؤمن أن الحق سيبزغ كبزوغ الشمس في رابعة النهار، وأن النصر صبر ساعة والذي تجلت معانيه ودقائق تفاصيله في يوميات الفلسطيني، تجاه القمع والقهر اللذان يصبهما العدو الإسرائيلي فوق رأسه بلا انقطاع، لو استطاع أن يحبس عنه الهواء لفعل، وهذا بالضبط ما وصل إليه الإجرام الذي يتنفسه ويسري في عروقه، فقد صرح البعض منهم بأنهم لو تمكنوا أن يمنعوا الهواء عن كل فرد فلسطيني ما تترددوا.
ولا يعجب المطلع والمتابع للشأن الفلسطيني، مالجرائم المروعة التي يمارسها الاحتلال بشعب فلسطين الحبيبة، فعشقهم لسفك الدماء والتدمير لم يأت من فراغ، فقد دربهم أعداء الأمس أصدقاء اليوم. يوثق التاريخ الاستعماري البريطاني لجوء ضباط انجليز على تدريب العصابات اليهودية، الشتيرن والهاغانا وأرغون وغيرها، من العصابات الصهيونية الإرهابية، على قتل الفلسطينيين وتدمير قراهم وتهجيرهم بالإكراه والترويع الشديد لهم كي يدفعوهم للتخلي عن وطنهم، ومثلهم من الفرنسيين والأمريكيين في وقتنا الحالي، دربوهم على التفنن في قتل الفلسطينيين الذين لا ذنب لهم سوى أنهم وقعوا فريسة لمصالح وأطماع شريرة لا حدود لها، والمجتمع الدولي يصطنع العجز عن محاسبة الكيان المحتل وحماية الشعب الفلسطيني.
استخفاف المجتمع الدولي بالمعاناة التي يمر بها الإنسان الغزي، ليس جديداً فمنذ نشأت الكيان الغاصب، بل ما قبل ذلك إبان فترة الاستعمار الإنجليزي البغيض، والمعاناة تزداد ووصلت أوجها في هذه المرحلة، والمجتمع الدولي بمشاركة النظام العالمي يصم أذنيه عن تلك المعاناة، والآلام التي تدق كل مفاصل حياة الفلسطيني، وكيف لا؟! وتآمر المجتمع الدولي بل الأمم المتحدة ذاته في تثبيت قدم المحتل الصهيوني على أرض فلسطين بدا واضحاً، تستصدر قراراً تلو قرار لذر الرماد في العيون، وتطمس حقيقة أن الأمم المتحدة هي المسؤولة الفعلية عن كل ما جرى ويجري للشعب الفلسطيني، والآن تساوي في قراراتها بين الضحية والجلاد، تدعو إلى إيقاف الحرب، ولا تجرؤ على قول الحق أن هناك محتل يجب مقاومته، وتعلم علم اليقين أن شعب فلسطين قد سرقت أرضه من قبل أناس تاريخهم يشهد بفسادهم، حتى أوروبا وأمريكا ومن على شاكلتهم في يوم ما لفظوهم فساحوا في الأرض يبحثون عن مأوى يؤويهم ويخفى رائحتهم النتنة عن البشر، ومكان يدارون فيه أحقادهم وعمى قلوبهم وعطشهم للخراب والدماء.. فكانت أرض فلسطين الطاهرة للأسف.