فنون
“سيّدات الخزامى” هو فيلم دراما رومانسي رائع ومؤثر، وقد أخرجه الممثل البريطاني “تشارلز دانس” في تجربته الإخراجية الأولى والوحيدة، كما قام أيضًا بكتابه النص السينمائي باقتباسه من قصة قصيرة للكاتب “وليام جيه لوك”، التي أصدرها في عام 1908.
تدور أحداث الفيلم خلال حقبة الثلاثينيات في بلدة كورنوول في بريطانيا، حيث تعيش الشقيقتان المسنّتان “جانيت” و”أورسولا” في منزلهما المطلّ على البحر، وبعد عاصفة هوجاء تعثران على شاب غريب فاقد الوعي جرّفته الأمواج إلى الشاطئ، ويتّضح لاحقًا أنّ اسمه “آندريا”، وهو عازف كمان بولندي لا يتحدّث الإنجليزية، فتقرر الشقيقتان الاعتناء به حتى يتعافى.
“أورسولا” التي لم تعرف الحب قط، تجد نفسها فجأة أمام شابٍّ وسيمٍ مفعمٍ بالحياة، يدخل منزلها مثل نسمةٍ عليلة، فتتعلّق به بعفويةٍ بريئة، وتُعامل كلّ لحظةٍ معه كأنّها هبة من الزمن، وكأنّما الحياة منحتها أخيرًا ما حرمتها منه طويلًا.
شقيقتها الأرملة “جانيت”، التي فقدت زوجها خلال الحرب العالمية الأولى، تنظر إلى الموقف بواقعيةٍ حزينة، مدركةً استحالة تحقيق هذا الحلم العاطفي، ومع دخول شابة غامضة تُدعى “أولغا” إلى حياتهم تتعقّد الأمور.
والمدهش في المعالجة الدرامية التي قام بها “تشارلز دانس” هو أنّه لم يسعَ إلى جعل القصة عن الحب المستحيل، بل عن إمكانية الشعور بالحب بعد فوات الأوان، فـ “أورسولا” تنظر إلى وجه الشاب كما لو كانت ترى فيه انعكاسًا لما فقدته من شبابها، بينما “جانيت” تتعامل بحذرٍ، ومع ذلك فكلٌّ منهما تقع في الفخ بطريقتها.
كم هي تجربة فريدة أن ترى اثنتين من أفضل ممثلات بريطانيا تقفان معًا في فيلمٍ واحد، فهما لا تؤديان شخصيتين فحسب، بل تنسجان معًا روح الفيلم وقلبه النابض. “جودي دنش” قدّمت أداءً آسرًا للحواس بشخصية “أورسولا”، ومنحتها ذلك الاضطراب العاطفي الجميل أمام الحب الذي جاء بعد فوات الأوان، فيبدو حضورها على الشاشة مزيجًا من البراءة والوجع المكتوم، بينما جسّدت “ماغي سميث” شخصية “جانيت” بمزيجٍ من الحكمة الهادئة والغيرة الدفينة، وقد كان أداؤها مذهلًا.
“آندريا” الذي يؤدي شخصيته الممثل الألماني “دانييل برول” ليس مجرّد شاب وسيمٍ من البحر، بل رمزٌ للغربة والأمل وللحرية التي تفتقدها الشقيقتان، وقد أبدع في أدائه، وكذلك “ناتاشا ماكيلون” قدّمت أداءً متميزًا بشخصية “أولغا”، ولا أنسى “ميريام مارغوليس” بشخصية الخادمة “دوركاس”.
بلغت ميزانية الفيلم حوالي 6 ملايين دولار، وقد وصلت إيراداته إلى أكثر من 20 مليون دولار في شباك التذاكر في بريطانيا وبقية دول العالم، ورغم أنّ هذا يُعدّ نجاحًا تجاريًا للفيلم، إلا أنّه لم يلقَ الدعم الإعلامي ولا الانتشار الكافي، ولم تصدر له نسخة بلوراي حتى الآن.
من أسرار جمال الفيلم كانت الموسيقى التصويرية لـ “نايجل هس”، التي ضمّت معزوفات خاصة بآلة الكمان، بحكم شخصية “آندريا” كعازف كمان في الفيلم، والتي أدّاها عازف الكمان الشهير “جوشوا بيل”، ولا يمكنّني وصف مدى روعتها، وكأنّها خيط سحري يربط المشاعر بين الشقيقتين و”آندريا”.
كلّ نغمة تعكس غربة “آندريا” وشغفه وحنينه، وفي الوقت نفسه توقظ في قلبَيّ “أورسولا” و”جانيت” ذلك الإحساس الدفين بالحياة التي تمرّ بهدوء من حولهما، ومع تدفّق الموسيقى، شعرت كمشاهد أنّني لست فقط أتابع قصة، بل أعيشها من الداخل، كما لو أنّ صوت الكمان يفتح نافذة صغيرة على مشاعر الجميع، ويمنح الفيلم دفئه الإنساني الذي لا يمكن مقاومته.

