في “سوق المتعة” يمكنك أن ترى شخصًا قضى عمره في السجن – تلفيقًا للمصادفة- يعجز بعد خروجه عن التأقلم، واستعادة قدرته على الحياة الطبيعية غير السجنيّة، فيجتهد لإعادة رسم الحياة على صورة السجن التي ألِفها، غير قادرٍ على الخروج منها، انحباسًا مستمرًّا، فيأكل ويشرب ويدفعُ ويبول ويحبّ وينام على صورته (كسجين) لعلّها الوحيدة التي بقيت له، لطولِ ممارستها ولو قسرًا.
وحين تضيقُ به أو يضيقُ بها هذه الحال، يعودُ إلى موضع السجن وصحبته ليعيشوا فيه ولو تحايلاً، بقوانينه وسجّانيه وتفصيلاته اليوميّة، انتصارًا لسجنيّته على حريّته، ولاستثنائه الذي طال على طبيعته التي تساقطت وبهتت.
وهذا مثلٌ شائعٌ في السجون عند المتردِّدين عليها، من تجّار المخدّرات والسلاح واللصوص وغيرهم من الذين لا يطيقون الحياة خارج السور لطول ما قضوه من أعمارهم خلفه، وحين تسألهم “رجعت ليه؟” يقول ببساطة “ما عرفتش أعيش برّه”، هناك مبرِّرٌ آخر يسوقونه أشدّ صدمةً وإيجازًا، وهو “الدنيا برّة مش جدعة”.
وإذا كان الإنسان في السجنِ يُنازَع من جانبين: تطبيعه مع السجن من ناحية وتخلّيه عن حقّه الأصيل في الحريّة والحياة الطبيعيّة/الفطريّة، أو إنكاره لما هو فيه أصلاً مما يفقده القدرة على النجاة، إن كان ثمّة نجاة، كما يُفقده عقله تمامًا.
أضف إلى ذلك أن السلطة -أي سلطة- بحماقتها وتلفيقها وضيق فكرها، إن كان لديها ثمّة فكر، تستسهل الحبس على ما سواه، فيصبح الحبس (ذلك الرعب الرادع في الأذهان) مجرّد تجربة، تمرّ مما يمرّ غيرها، وباختبارها لا تعد ذلك الرادع الغامض الذي يخشاه الناس دون إدراك كنهه. بل وتتجاوز بخبل -وإجرام- ذلك إلى أن يصبح التعذيب والتنكيل ومنع الحقوق الرئيسة كالطعام والعلاج والغطاء والزيارة والتريض، تصبح كلّها ليست اعتيادية فحسب إنّما معمّمة.
فالنزاعُ خارجه ليس بهيّنٍ كذلك، محاولةً للتعافي ممّا فات ومواكبة ما يجري، والسعي نحو القادم بما يليق بالقادم، وعيًا وأدواتٍ، وليس الكلّ قادرا على القيام بالمهمّة، لقسوة التجربة وعمق الأثر.
لكن؛ أيعني ذلك أنّها القاعدة: سيبقى السجينُ سجينًا ولو خرج، وسيجتهد للعودة وبلا وعيه ليتجنّب مأساته خارج الأسوار؟ يبدو أنّ في الأمر استسهالٌ وحماقة إن لم يكن شرًّا مقصودًا لذاته أو تمهيدًا وتهيئةً لما يُرادُ له أن يحدث من إعادته قسرًا دون تحمّل اللوم أو المسئوليّة، هذا خطابٌ يروج ردًّا على كلّ نشاطٍ أو مشاركةٍ على غير هوى السلطة، بالتزامن مع الإبادة الجارية على بعدِ خطواتٍ منّا ودور السلطة فيها.
وإعادة إنتاجها من جمهور، قد تُفهم وإن لم تُقبل، لكن ماذا عن إعادة إنتاجها من “ثوّار سابقين” أو سياسيين معارضين، الآن وهم يعرفون مراد السلطة منها؟ أهي مباركةٌ لما يُعدُّ له ؟ أم اتّفاق رغبات تخلّصًا من الإزعاج والمزعجين؟
أليس خطابًا كهذا يروجُ حتى في الجلسات غير المعلنة عن “أحمد الطنطاوي” مثلاً: متهوّر، هو اللي مصرّ يحبس نفسه، مصمم على استفزازهم والصدام معاهم … إلى آخر القائمة الوضيعة.
سبق وراجت جملٌ كهذه عنّي، وإن زيد عليها “قليل الأدب” كما عن علاء و عادل وغيرنا. فقط لتبرّر إبقاءك في المعتقل للأبد، دون تحميل المجرم عبء جريمته، إنّما ستتحمّلها أنت لتصبح في أعين الناس “سجّان نفسك”.
وهي رغم كونها جريمةٌ بذاتها، إلا أن أجرم ما فيها في ظنّي إنكارها لحقّك في استمرار نضالك ضد القمع والاستبداد وبيع الوطن، بوضوح ولا مواربة.
ألا يرسّخون بهذا ما أرادته السلطة من السجن والاعتقال: يهذّب شاذ سلوكك السابق، فتخرج منه طيّعًا ليّنًا، وأخرس؟ أمّا هؤلاء الببغاوات؛ هل هم مجرّد مردّدون؟ فسيعودون لأسرّتهم مساءًا، ليناموا هادئين بعد أن ألقوا بالحمل عن أنفسهم، وعن السلطة .. وربّما يبكونك ساعتها تطهّرًا كاذبًا أخيرًا..