آراء

صدّام حسين والمخابرات الأمريكية.. القصة السرّية الكاملة (2)

صدّام حسين والمخابرات الأمريكية.. القصة السرّية الكاملة (2)

مرحلة ما بعد فضيحة إيران كونترا

يوضح ستيف كول في كتابه “كعب أخيل.. صدّام حسين، وكالة المخابرات المركزية وأصول الغزو الأمريكي للعراق”، أنّ صدّام حسين لم يكُن القائد العربي الوحيد الذي دهش من فضيحة إيران كونترا. غضب الملك حسين من الفضيحة، فقد ساهم الملك سابقًا في طمأنة العراقيين بأنّ وكالة المخابرات المركزية دورها تقديم معلومات استخبارية هدية لمساعدة صدّام ضد إيران. والفضيحة تجعل نظام صدّام يشكك في هذه المعلومات ويعتبرها مزيفة لكي يكون هدفها إطالة أمد الحرب. هذا ما كتبه الملك حسين إلى ريغان: «ألن يشعر العراقيون الآن بأنّهم ضُلّلوا؟ ليس على يد الولايات المتحدة فحسب، بل على يد أيّ أحد يحاول أن يفسّر أو يبرّر أو يدافع عن التصرفات الأمريكية».

يصل ستيف كول إلى تفسير هذه العلاقة المعقدة بين واشنطن وبغداد، فما فهمه الأمريكيون على أنّه غياب كفاءة مذهل في سياسة أمّتهم الخارجية وتضاربهم في التعاون بين إيران والعراق، أوَّله صدّام على أنّه عبقرية تقوم على التلاعب من المخابرات الأمريكية.

“أقسم أنّني لست مُفاجَأً” من إيران كونترا. هذا ما قاله صدّام لمستشاريه في اجتماعاته السرّية بعد الفضيحة، وقال لهم: “غير أنّ هذا المستوى من السلوك السيئ وغير الأخلاقي أمر جديد”. أكدت الفضيحة قناعات صدّام الراسخة عن وجود تعاون بين الولايات المتحدة وإيران، وأنّ إسرائيل وإيران متواطئتان، ووكالة المخابرات الأمريكية شريكهما الصامت. هذا ما أعلنه صدّام قائلًا لرفاقه في أحد الاجتماعات: “لخاطر الله يا رفاق، هل ينبغي أن أكرر هذا كل مرة؟”.

عملية جديدة بعنوان “قائد الكهنة”

من المفارقات التي يكشفها الكتاب أنّ صدّام رغم غضبه من الاستخبارات الأمريكية وتعاونها مع إيران، عاد مرة ثانية ووافق على الاستفادة من معلوماتهم السرّية. قبل أعياد الميلاد لسنة 1987، وزعت وكالة الاستخبارات تقريرًا مثيرًا للقلق عن تقدم القوات الإيرانية وقدرتها على كسر الخطوط العراقية في فصل الربيع، ممّا قد يساهم في إسقاط نظام صدّام حسين والظفر بالحرب، واستنتجت إدارة ريغان أن العراق يجب ألا يُهزم وألا يكتسحه الخميني، أمَر البيت الأبيض وكالة الاستخبارات بالمضي قدمًا، وأعطوا العملية اسمًا مشفرًا بعنوان “قائد الكهنة”.

مهّد حلفاء أمريكا العرب الطريق لوكالة استخبارات الدفاع الأمريكية مع صدّام والاستخبارات العسكرية العراقية. بعد أن قدّم بعض الضباط الأمريكان إيجازًا إلى الملك حسين في عمان، اتصل الملك بصدّام وحثّه على التعامل مع وكالة استخبارات الدفاع بجدية.

تقاطر ضباط هذه الوكالة إلى دار الأمير بندر بن سلطان آل سعود، السفير السعودي والداهية العنيد كما وصفه الكتاب، ونشروا أمام الأمير عرضًا من صور التقطتها الأقمار الصناعية، قال الضابط الأمريكي: “الهدف هو أن يتمكن بندر والحلفاء العرب الآخرون من القول للعراقيين إنّهم بحاجةٍ إلى قبول مساعدة البنتاغون”. وعلى الرغم من تعميق فضيحة إيران كونترا لريبة وشكوك صدّام في النيات الأمريكية، فإنّه بدا كأنّه قد قرر إذا كانت صور وكالة استخبارات الدفاع التي التقطتها الأقمار الصناعية للمواقع الإيرانية دقيقة أم لا، وهذا ما يستطيع قادته تحديده بأنفسهم، فحينها حتى لو كانت لعبة واشنطن هي توفير دعم لكلا الجانبين فعليه أن يستفيد من المكيدة قدر المستطاع.

تقابل ضباط المخابرات الأمريكية مع العراقيين، بل أمّن العراقيون إقامتهم في فندق الرشيد، وتوجّه الضابط العراقي بالسؤال إلى الضابط الأمريكي قائلًا: “هل نظيرك من المخابرات الأمريكية في طهران الآن؟”. افترض الضابط العراقي هو وزملاؤه أنّ لكلّ وفدٍ من وكالة المخابرات الأمريكية في بغداد وفدًا آخر على الأرجح ينفذ نفس المهمة في طهران. وردّ الضابط الأمريكي: “كلا، ليس في طهران أحد”.

تعليمات ضباط وكالة الاستخبارات الأمريكية نصّت على تقديم معلومات عن القوات الإيرانية في ميادين المعارك من شأنها مساعدة القوة الجوية العراقية على قصف التشكيلات العسكرية والبنية التحتية الإيرانية خلف الخطوط الأمامية. تضمنت الأهداف تحشيدات القطعات العسكرية، ومجموعات سفن راسية بعضها إلى جانب بعض، وجسور السكك الحديدية، والجسور المهمة.

الهدف من الدعم الأمريكي للعراق هو إرباك الاستعدادات الإيرانية لهجوم الربيع المحتمل، غير أنّ الأمريكيين تلقوا تعليمات بعدم توفير معلومات لها قيمة تكتيكية وفورية ومباشرة لنظام صدّام حسين، بمعنى أنّهم يوفرون معلومات لا تجعل صدّام يتفوق كثيرًا على طهران ويحقّق نصرًا ساحقًا، بل معلومات يكون هدفها منع إيران من احتلال العراق فقط.

سأل نائب مدير الاستخبارات العسكرية العامة وقائد الوفد العراقي اللواء وفيق السامرائي، الأمريكيين قائلًا: “ماذا علينا أن نعطيكم لكي نحصل على هذه المعلومات؟ ماذا تريدون منّا؟”.

ردّ ضابط المخابرات الأمريكي: “لا نريد منكم شيئًا، لا نريد للإيرانيين أن ينتصروا”.

ما بعد الحرب العراقية-الإيرانية.

بدأ صيف سنة 1988 بالنسبة إلى صدّام موسم انتصار عظيم في العشرين من يوليو/تموز. آية الله الخميني الذي كان يقترب من عيد ميلاده السادس والثمانين ويعاني من صحة سيئة قد استسلم أخيرًا، ووافق على وقف إطلاق النار، واعترف الخميني أنّ اتخاذ هذا القرار مثل تجرُّع السمّ، بحلول سبتمبر/أيلول أنهى صدّام التعاون مع وكالة الاستخبارات الأمريكية، ولم يَعُد يرحّب بجواسيس الولايات المتحدة الأمريكية في بغداد.

يلخّص ستيف كول في كتابه “فخ أخيل” ظروف هذه المرحلة بقوله إنّ صدّام حسين بدأ إحدى أعلى الحروب تكلفة وطيشًا في التاريخ العالمي القريب، وبعد ثماني سنوات فظيعة انتهت حيث بدأت، فخسر العراق مئات الآلاف من القتلى، وقُتل عدد مماثل من الإيرانيين، وأنفق أكثر من 500 مليار دولار.

بينما بدأت الحرب، كان لدى العراق 35 مليارًا من عملات الاحتياطي الأجنبي، وعندما انتهى كان العراق مدينًا بأكثر من 80 مليارًا -أي مرتين بحجم اقتصاده- إلى مقرضين مختلفين، ومنهم اليابان وفرنسا وألمانيا الغربية وأمريكا والاتحاد السوفييتي. كان أكبر دائنيه هما السعودية والكويت، فقد كان العراق مدينًا لهما بخمسة وثلاثين مليارًا، وعشرة مليارات على التوالي، غير أنّ صدّام لم يكن لديه خيار سوى إعلان وتسويق هذا الفشل الذريع على أنّه انتصار في سلسلة انتصاراته المجيدة.

مرحلة جديدة بين صدّام حسين وجورج بوش الأب.

تحوُّل جديد طرأ على علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع صدّام حسين مع انتخاب الرئيس جورج دبليو ووكر بوش رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1988. يوضح ستيف كول أنّه يمكن القول إنّه أفضل رئيس لديه استعداد للسياسة الخارجية منذ الرئيس دوایت آیزنهاور، فهو مدير سابق لوكالة المخابرات المركزية، وسفير للأمم المتحدة، ثمّ أمضى ثماني سنوات نائبًا للرئيس يراقب سياسة رونالد ريغان الخارجية من كثب.

أوردت وكالة المخابرات الأمريكية وأجهزة استخبارية أخرى أنّ العراق مُنهَك من الحرب العراقية-الإيرانية، ومثقل بالديون، ولا يشكل تهديدًا على المدى القريب، ففي سبتمبر/أيلول من سنة 1989 حضر بوش الأب اجتماعًا لمجلس الأمن القومي. ريتشارد كير، الذي خدم بمنصب نائب مدير وكالة المخابرات المركزية، قدّم إيجازًا في الاجتماع عن الشأن العراقي، سأله بوش: “هل من الممكن أن يتغير صدّام حسين حقًّا؟”، قال كير: “الفهد لا يغير جلده”.

غير أنّ نتيجة الاجتماع أسفرت عن سياسة علاقات طبيعية مع العراق، لأنّه ليس ثمة ما تخسره أمريكا في محاولة تعزيز العلاقات مع بغداد، وافق بوش على ذلك وسعى الرئيس إلى تشجيع سلوك معتدل على نحوٍ مقبول من جهة صدّام حسين، وفى الوقت نفسه يقدم العون إلى المصالح الأمريكية التجارية عبر إتاحة منفذ لها لما افترض أنّه “جهد إعادة بناء العراق الضخم”، بعد الحرب مع إيران.

الحافز الرئيسي الذي دار في خلد الرئيس بوش الأب هو التعاون الاقتصادي، لكي يستمر إمداد الولايات المتحدة الأمريكية للعراق بالقمح الأمريكي، وهكذا غلّبت أمريكا مصالحها الاقتصادية على أيّ غضب من سياسات صدّام، سواء في قتله الجماعي للأكراد، أو استخدامه الأسلحة ضد إيران. وساد جوّ من التفاؤل الرسمي بين العراق وأمريكا، وسافر طارق عزيز في السادس من أكتوبر/تشرين الأول إلى واشنطن لكى يلتقي وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر، وأبلغ عزيز الوزير أنّ صدّام يشكّ في أنّ الولايات المتحدة وضعته على قائمة الاغتيالات، وردّ وزير الخارجية بأنّ هذه الفكرة غير صحيحة.

نقطة التحوُّل وكعب أخيل.

في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1989 انهار جدار برلين، ومع ترنح الاتحاد السوفييتي وانهيار الحرب الباردة رأى صدّام حسين المتاعب قادمة، واستنتج أنّ السوفييت انتهوا بوصفهم قوة عالمية، وأنّ الولايات المتحدة لها اليد الحرة لتأكيد نفسها. هذا ما قاله صدّام لمساعد وزير الخارجية الأمريكي جون كيلي في بغداد.

بعد هذه الفترة بدأ التحوّل المدهش لصدّام من حليفٍ أمريكي هش يستقبل معلومات استخباراتية منهم إلى عدوّ واضح، وألقى صدّام خطاب في القمة العربية وذكر ما حدث للجنود الأمريكان في بيروت عندما انسحبوا من لبنان، وأكد صدّام لمستمعيه في القمة: “جميع الرجال الأقوياء، لديهم كعب أخيل”، أيّ نقطة ضعف، ومن هذه العبارة استوحى ستيف كول عنوان كتابه الذي نعرضه.

وهذه تعود إلى الإشارة الأسطورية لكلمة “أخيل” المستمدة من الأسطورة اليونانية عن أخيل، البطل الذي كان لا يُقهَر باستثناء نقطة ضعفه في كعبه، ويرمز إلى فكرة أنّ نقاط القوة أو الثقة المفرطة يمكن أن تؤدي إلى سقوط كارثي بسبب نقطة ضعف غير متوقعة، وهو ما تخيّله صدّام في صراعه مع الولايات المتحدة حينما تخيّل أنّ العرب قد يتحدون ضدها ويُصيبون كعبها في مقتل.

شارك

مقالات ذات صلة