آراء
في وطنٍ تُشيّد فيه السلطةُ السجون أسرع ممّا تبني المدارس، تصبح الكلمة أُولَى أشكال المقاومة، ويغدو الدفاع عن حرية الرأي دفاعًا عن معنى الوطن ذاته. ليس الحديث هنا عن فئةٍ محدودة أو قضية موسمية، بل عن روح مصر تختنق بين القضبان؛ عن جيلٍ كاملٍ حُرم حقّهُ في التفكير والتعبير وممارسة حقوقه السياسية المبدئية.
منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، تكابد مصرُ في قلبها أسى أليما وجُرحًا غائرا اسمه “سجناء الرأي والضمير”. آلاف المواطنات والمواطنين من الصحفيين والكتّاب والباحثين والنقابيين والسياسيين والطلاب والعمال وحتى غير المُسيّسين ممّن لم يرتكبوا سوى القبض على الجمر.. الرأي.. التعبير.. الفكر.. الشرف.. الإيمان.. الحق المكفول بالدستور والقانون في اختيار مرشح هنا أو رفض فساد هناك.. اقتادتهم يقظة ضمائرهم في ذمة سلطة قامعة تستعلي بالقوة وتقدّم البطش والتنكيل سبيلا على ما سواه.. هؤلاء المواطنات والمواطنون السادة في وطنهم السيد يقبعون خلف القضبان لا لأنّهم تآمروا على الدولة، بل لأنّهم تجرّأوا على طرح سؤال مشروع، أو كتابة رأي، أو رفض صمتٍ فُرض دون تشريعٍ رافِعتُه الشعب، أو تنفيذٍ يحترم حق المواطن في إجراءاتٍ غير معيبة، فتعلقت أفئدتهم هم وذويهم بسلطة القانون، بعدالة ناجزة ورحمة فوق العدل.
قضَّ الحبس الاحتياطي مضاجع عشرات الألاف من الأسر، إذ تحوّل -هو الاستثناء على ما يُفترض- إلى عقوبةٍ بحدّ ذاته، والتهم طازجة دائما وأسنانها مدببة “نشر أخبار كاذبة وإساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي وتكدير السلم العام والحط من شأن مؤسسات الدولة والانضمام إلى جماعةٍ إرهابية” صارت مطيّة السلطة لخصومات مع ضمائر يقظة أو أيادٍ شريفة.
وسط هذا الظلام، خرجت مبادرةٌ جديدة تُعيد تعريف معنى الفعل المدني والعمل العام، مبادرةٌ ابتغينا منها أن نكون -كل المؤسسين وأشُرُفُ بكوني إحداهم- رأس الحربة لمواصلة النضال في قضية سجناء الرأي والضمير. في لحظة فاصلة في تاريخ مصر، نحمل على أعناقنا ما سيرثه أبناء هذا الوطن إن فرطنا في الاستبسال من أجل الحرية، على بداهة الحق فهو عزيز تَضِنُّ به السلطةُ وهي غير مانحة، وتنكل بطالبيه وهي غيرُ مانعة، لا حقّ لها في المنح أو المنع. من هنا أسسنا اللجنة الشعبية للدفاع عن سجناء الرأي والضمير (#إفراج)، التي وُقّع بيانُها التأسيسيُ من ممثلين لأحزاب وقوى سياسية و مهنية وعمالية وشخصيات عامة وحقوقيين وصحفيين وفي واسطة عقدهم أهالي لسجناء الرأي والضمير.
ليست اللجنة حزبًا جديدًا، ولا حركة احتجاجية، بل ضميرٌ جمعيٌ يستنهض روحا وطنية وثابة ليقول إنّ الدفاع عن حرية الكلمة ليس ترفًا بل واجبًا وطنيًا.
لقد ملّ المصريون وعود “الحوار الوطني” التي تحوّلت إلى صدى بلا أثر، وملّوا “لجان العفو” التي وُلدت من رحم السلطة فلم تقدر على مراقبة أو محاسبة تغولها في قضايا الرأي والضمير، حتى بدى وكأن آلة الحبس أقوى من القانون. أسسنا برافعة أهالي زملائنا مسجوني الرأي والضمير هذه اللجنة لتقول ما يجب أن يُقال: إنّ العدالة ليست منحةً من سلطة، وإن الحرية لا تُستجدى بل تُمارَس.
القضية هنا ليست إنسانية فحسب، بل دستوريةً أيضًا.
فالدستور المصري المسطور في عام ٢٠١٤ بتعديلاته التي انتهكت الحق الأصيل في التداول السلمي للسلطة والفصل والتوازن بين السلطات في عام ٢٠١٩ ينصّ في مواده ٦٥ و ٧٠ و ٧١ على حرية الفكر والتعبير وحرية الصحافة والنشر، ويحظر توقيع أيّ عقوبة سالبة للحرية في قضايا النشر. وعلى الرغم من ذلك، تُحاكم الكلمة يوميًّا، وتُغلق المنصات الإعلامية، ويُلاحق الباحثون بتهم معلّبة، بينما تُفرغ هذه المواد من مضامينها بحُجَجٍ واهية.
أمّا مشروع قانون الإجراءات الجنائية، الذي يُفترض أن يضعَ حدًا للحبس الاحتياطي المفتوح، فلا يزال حبيس الأدراج؛ وكأنّ العدالة نفسها تنتظر إذنًا بالإفراج. ناهيك عن عواره الشديد الذي كفّت ووفّت في معيبه هذا أياد النظم والمصارحة والتقويم من القانونيين والصحفيين الوطنيين قبل وإبان عرضه على المجلس التشريعي المنتهية ولايته لاحقًا هذا العام.
وفي المقابل، تبقى لائحة السجون المصرية، بكلّ ما تحمله من حقوقٍ آدمية بداهية تتحدّث عن “حق السجين في الاتصال والرعاية الطبية والزيارة المنتظمة” نصّا مُصمتا لا يجد طريقه إلى الواقع. فكم من سجينٍ مُنع من الدواء أو الزيارة أو التريض أو إيداع الاستئناف أو النقض أو حتى حضور جلسات الإحالة والتجديد وغيرها من درجات التقاضي في غياهب الجب وبلا حقوق؟ وكم من آباء وشركاء حياة وأخوة وأبناء وقفوا على باب السجن يحملون “تصريح زيارة” لا يُنفّذ؟
أكم من مرة طَنّ في آذاننا رجعُ الصدى بإنكار وجود سجين سياسي ولا سجين رأي أو ضمير واحد في مصر؟ وكم سمعتُها بأذني مرات ومرات في زياراتي للسجن ”تأهيل أربعة سياسي“ ”تأهيل أربعة جنائي“. الحقيقة هي السجن.. حيث يحول القضبان بين الضمير والحرية، وحيث تضيع أعمار من ليس محلهم السجون. كم نفتقد من أساتذة ومفكرين وصحفيين وباحثين ورسّامين ومبدعين وأكاديميين في الفنون والاقتصاد والسياسة ومناضلين وشباب أطهار من الطلاب وغيرهم خلف هذه الخرائب الصدئة! كم مقعد شغر من هؤلاء المواطنين أصحاب الضمائر الشرفاء وبمن شُغل؟!
حين تُعطَّل القوانين، يتحول الوطن إلى سجنٍ كبير.
لكن هذه الانتهاكات لا تتوقف عند جدران الزنازين، بل تمتد إلى نسيج المجتمع كله. فحين يُسجن الأب أو الأم أو الابن أو أحد الزوجين لمجرّد رأي، لإعمال العقل -وهي والله ميزة اختصنا بها الله دونا عن خلقه- تتشقق الأسرة وتُزرع النقمة والضغينة في قلب الوطن. أطفال ينشأون على الخوف، وزوجات وأمهات يتحوّلن إلى صفوف انتظار على بوابات السجون، ومجتمع يفقد ثقته في القانون والعدالة. إنّها مأساة جماعية لا يمكن ترميمها بالمصالحات الشكلية أو البيانات الرسمية. فالوطن لا يُبنى بالخوف، بل بالطمأنينة إلى عدالة الدولة ناجزةً مستقلة.
تحوّلت حياة أهالي سجيني الرأي والضمير إلى مأساةٍ ممتدة خلفها بطولات أليمة ونضالٌ صامت مُرغم. أبناء كبروا في طوابير الزيارة، حفظوا وجوه آبائهم من خلف الزجاج السميك، وتعلموا القانون قبل أن يتعلموا اللعب.
بعض هؤلاء الأطفال أصبح اليوم محاميًا، يقف في قاعة المحكمة ليدافع عن أبيه أو أمه، رافعًا ملفاتٍ تشهد أنّ العدالة المؤجلة تلد أجيالًا من المقاومة، أجيالا لم تعرف الطفولة كما نعرفها، بل عرفت معنى الكرامة قبل الحُلْم، فصاروا رمزًا لاستمرار الضمير رغم الأسر.
هذه ليست حكايات تراجيدية تُروى، بل علامات على أنّ السجن لم يكسر الروح المصرية، وأن الميراث الحقيقي الذي تركه سجناء الرأي لأبنائهم هو الإيمان بأن الحرية ممكنة ولو بعد حين. هكذا أورثت الزنازين أبناء سجنائها مظالمها، فصار الجيل الجديد محاميًا عن الحرية قبل أن يكون محاميًا عن ذويه.
إن ميزان العدل لا يمكن أن يستقيم بدون سيادة القانون. فالعدالة التي لا تتسق لا تُنصف. وما لم يُفصل بين السلطة التنفيذية والقضائية فصلاً حقيقيًا، سيبقى المواطن مهددًا بأن يتحول خلاف ما في الرأي إلى اتهام في قضية أمن دولة.
إن اللجنة الشعبية، في بيانها التأسيسي، وضعت لنفسها مهامّ واضحة:
الضغط السياسي والإعلامي من أجل الإفراج الفوري عن جميع سجناء الرأي، وتلقي البلاغات عن حالات الإخفاء القسري والحبس في قضايا الفكر و التعبير، وتقديم الدعم القانوني والإنساني للسجناء، ومخاطبة الرأي العام أولا قبل أي جهة خاضعة للسلطة لضمان محاكمات عادلة وظروف احتجاز إنسانية، وإصدار تقارير دورية تضع الحقيقة أمام الشعب المصري. كل ذلك بجهود ذاتية تطوعية.
غياب حرية التعبير لا يُفقر السياسة فحسب، بل يشلّ الحياة العامة. فلا تنمية بلا مساءلة، ولا إصلاحا بلا نقد، ولا تقدم بلا فكر حر. حين تُكمَّم الأفواه، تُغلق أبواب الإبداع والبحث العلمي، وتتراجع الدولة في قدرتها على مواجهة أزماتها بصدق وشفافية. فالمجتمعات لا تنهض بالإنكار، بل بالاعتراف والجرأة على تصحيح المسار. إن صوت المفكر أو الصحفي أو المواطن الحر ليس خطرًا على الدولة، بل هو صمام أمانها الحقيقي.
لقد آن الأوان أن نعيد الاعتبار لمفهوم الضمير الوطني، لا بوصفه شعارًا بل التزامًا. الضمير الوطني لا يُسجن لأنه ليس فردًا، بل هو مجموع القلوب التي ترفض الصمت أمام الظلم. هو الممر الوحيد بين الدولة والمجتمع، بين القانون والعدالة، بين الأمن والحرية. وحين يسجن الوطن ضميره، فإنه يفقد القدرة على الإصلاح من داخله.
تاريخ مصر نفسه شاهد على أن الكلمة كانت دائمًا شرارة التغيير.
من الطهطاوي الذي كتب ليفتح عيون وطن على النهضة، إلى أحمد لطفي السيد وطه حسين الذين دافعوا عن حرية الفكر، إلى جيل الصحفيين الذين حملوا شعلة الحقيقة في وجه الاحتلال والاستبداد.
لم يكن في تاريخ هذا البلد ولا حركته الوطنية زمنٌ خلت فيه السجون من الأحرار، لكن لم يخلُ أيضًا من الكُتّاب الذين كتبوا حتى من وراء الأسوار. مصر لم تُعرف يومًا باسم سلطة غاشمة، بل بصلابة مناضلين أحرار.
نحن، الموقّعون على بيان #إفراج، لا ندّعي بطولة ولا نسعى إلى مواجهة مع أحد. لكننا نعلم أنّ الدفاع عن حرية الكلمة هو دفاع عن الدولة نفسها، لأنّ الدول لا تنهار بالهزائم، بل حين تخاف الحقيقة. نكتب ونوقع ونقف لأنّ مصر التي نحبها تستحق أن تتنفس هواءً حرًا شريفا، وأن يسمع أبناؤها صوتهم بلا خوف.
الحرية ليست مطلب نُخبة، بل حقّ حياة. وسجين الرأي ليس خصمًا للدولة، بل نصيرا لها. وإذا كان في مصر اليوم من يجرؤ على المطالبة بالإفراج عن الكلمة، فذلك لأنّ روح هذا البلد ما زالت حيّة رغم كل الجدران.
من هنا، من ضمير الصحافة التي لم ولن تُطفأ شمعتها، أكتب:
لن تكون السجون نهاية الكلام، ولن يكون الخوف قدر المصريين.
قد تُكمّم الأفواه، وقد تُغلق النوافذ، لكن لا أحد يستطيع أن يطفئ فكرة وُلدت من رحم الوجع.
وسيظل هذا البيان —بيان الضمير— حجرًا في جدار الصمت، يذكّرنا أنّ الحرية لا تموت، بل تنتظر من يحرّرها. وأنّ الحقوق تؤخذ ولا تُمنح.





