مجتمع

الرقة.. من الحصار إلى العزلة

نوفمبر 2, 2025

الرقة.. من الحصار إلى العزلة



كعادتها، تعيش الرقة تقلبات المشهد السوري بكلّ فصوله. فمنذ عام 2012، أحكم نظام الأسد قبضته الأمنية عليها، مستخدماً سلاح الحصار وقطع الطحين عن أفرانها والغاز عن أهلها وسيلةً لإخضاع سكانها وكسر إرادتهم. 

ومع تحرير الرقة في آذار/ مارس 2013، تنفّست المدينة أولى أنفاسها الحرة، فعاشت أجمل فصولها رغم ما شاب تلك المرحلة من تجاوزاتٍ وانتهاكاتٍ طالت بعض ناشطيها، الذين سعوا جاهدين إلى صدّها وحماية الوجه المدني للثورة. 

غير أنّ هذا الحلم لم يكتمل، إذ سرعان ما جاءت “داعش”، ففرضت بسطارها على رقاب أهل الرقة، وهدّدت بالموت كلّ من تجرأ على قول “لا”، فدفع المدنيون أرواح أبنائهم ثمناً لكلّ كلمة حرية خرجت من أفواههم.

وحين أطلق التحالف الدولي عملية “العزم الصلب” ضد التنظيم في آب/ أغسطس 2016، مستخدماً كلّ ما في ترسانته من أدوات الدمار، وجعل من مليشيا “قسد” سبطانةً لحربه، فتحوّلت الرقة إلى مدينة رماد. 

خرجت من تلك المعركة مثخنة بالجراح، إذ أظهرت الإحصاءات الميدانية دمار نحو 12,781 مبنى بشكلٍ كلي أو جزئي، أي ما يعادل 77% من مجموع مباني المدينة، فضلاً عن تدمير معظم مرافقها العامة، وتركها مثقلةً بإرثٍ من الألغام التي ما تزال تفتك بأبنائها حتى اليوم، ويُقدّر عددها بنحو 8,000 لغم أرضي منتشرة في الأحياء السكنية وبين الركام وفي الأراضي الزراعية.

وما إن بسطت مليشيا “قسد” سيطرتها على المدينة كقوة احتلال مفروضة على سكانها، حتى شبّهها كثيرون بعصابة “قطاع الطرق” في مسلسل الموت القادم إلى الشرق، إذ استخدمت وحدات مكافحة الإرهاب وتنظيم “الشبيبة الثورية” لقمع كلّ صوتٍ يهدّد كيانها، واعتقال المعارضين، ونشر المخدرات بين شباب المحافظة، بينما استعانت بعدد من شيوخ العشائر ومرتزقتهم كواجهةٍ شكلية لإيهام الناس بمشاركة أبناء الرقة في إدارة مدينتهم.

واليوم، وبعد سقوط نظام الأسد، ما تزال الرقة تعيش فصول التقلبات ذاتها من المشهد السوري. تستخدمها مليشيا “قسد” ورقة تفاوض، تتلاعب بها في كل جولة حوار مع الحكومة السورية، فيما تسعى الأخيرة إلى الضغط عليها عبر قطع الطرق المؤدية إلى المدينة وعزلها عن العالم الخارجي. يأتي ذلك في وقتٍ يعاني فيه أبناء الرقة من حاجةٍ ماسةٍ للارتباط بالداخل السوري، فطلاب الجامعات يبحثون عن منفذٍ للوصول إلى جامعاتهم والتقدّم إلى المفاضلات، بينما يضطر المرضى، بسبب تدهور الواقع الصحي في مناطق سيطرة “قسد”، إلى التوجّه نحو مشافي حلب ودمشق لتلقّي العلاج.

أما التجّار، فيسعون جاهدين لفتح طريقٍ يربطهم بالمدن السورية الأخرى لجلب بضائعهم منها، إذ تبقى أسعار السلع القادمة من حلب أو دمشق أقل بكثير من تلك المستوردة عبر أربيل، ما انعكس سلباً على حياة المدنيين، ورفع الأسعار إلى مستوياتٍ بات معها أبناء الرقة عاجزين عن تأمين احتياجاتهم اليومية الأساسية.

إذ أقدمت حواجز الحكومة السورية على إغلاق الطرق الرئيسية التي تربط الرقة بكلٍّ من دمشق وحلب، بذريعة “منع تسلّل الفلول” و”تفادي مرور المفخخات”. غير أنّ هذه المبررات تبقى غامضة، بينما الحقيقة الواضحة هي أنّ حياة مئات آلاف المدنيين أصبحت رهينة لسلاسل أمنية وقرارات اعتباطية لا يُعرف على أيّ أساسٍ تُتخذ، ولا متى يُفرج عنها.

فمنذ أيام، تحوّل طريق الرقة – حلب – حمص إلى ممرٍ للأعصاب المشدودة. الحافلات توقفت، وسيارات النقل الخاصة مُنعت من المرور، وحتى المركبات المدنية أُعيدت أدراجها، باستثناء حالات محدودة، بعض المرضى، وكبار السن، ومن تمكن من استدرار عطف الضباط المسؤولين عن الحواجز. 

فيما تطابقت الروايات حول بعض الانتهاكات على عددٍ من الحواجز التابعة للحكومة السورية، على طريق الرقة – حمص، حيث تعرض عددٌ من المسافرين بحسب شهادات عدة للشتائم والإذلال اللفظي. لا اعتداءات جسدية تمّ تسجيلها حتى الآن، لكن الإهانة وحدها كافية لتجعل المشهد جارحاً: طفل يتعثر باكياً على الإسفلت، وأبٌ يصرخ في وجه العسكر دون جدوى.

أما الطريق البديل عبر إثريا فلا يحمل خلاصاً. رغم أنّ التعامل هناك أكثر هدوءاً واحتراماً، إلا أنّ عبور الخطوط بين مناطق السيطرة ما زال غير ممكن. في المقابل، لا تمنع “قسد” أحداً من مغادرة الرقة، لكنّها تكتفي بتحذير المسافرين من أنّ الطريق مغلق. وهكذا يجد الأهالي أنفسهم عالقين في دائرة عبثية: من جهةٍ لا مانع من الخروج، ومن الجهة الأخرى لا دخول ولا عبور.

هذه الحالة من العزلة لم تأتِ من فراغ، بل كانت نتيجة مباشرة للفراغ السياسي والمماطلة في تنفيذ الاتفاقيات المبرمة بين الحكومة السورية وميليشيا “قسد”. ففي 10 آذار 2025، شهد مطار الضمير العسكري توقيع اتفاقٍ مبدئي بين الرئيس أحمد الشرع ومظلوم عبدي، القائد العام لـ “قسد”، تضمّن بنوداً أساسية أبرزها دمج المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية ضمن مؤسسات الدولة الجديدة قبل نهاية العام، بما في ذلك نقل السيطرة على المعابر الحدودية وحقول النفط والغاز إلى دمشق، وتوحيد القوات المسلحة تحت إشرافٍ مشترك، مقابل ضمان حقوق الأكراد والإبقاء على خصوصيتهم الإدارية مؤقتاً.

لكنّ التنفيذ سار ببطءٍ شديد، وسط اتهامات متبادلة بعرقلة الاتفاق. وبين الأخذ والرد، واصلت “قسد” انتهاكاتها بحق مدنيّي الرقة، إذ سُجّلت حالات اعتقالٍ طالت شباناً احتفلوا بتوقيع الاتفاق، فيما حوكم آخرون لمجرّد احتفاظهم على هواتفهم بصورٍ لعلم سوريا أو لرئيسها، بتهمة “الإرهاب”. كما شنت “قسد” حملة تجنيدٍ إجباري واسعة، طالت شباب المدينة بين سن 18 و40، في مشهدٍ أعاد للأذهان ممارسات الأنظمة التي ثار الناس ضدها يوماً.

تلك الممارسات، من الطرفين، بثّت في نفوس الأهالي شعوراً بالمرارة والخذلان. وغدا الغضب المكتوم الذي يثقل صدورهم أقرب إلى عجزٍ جماعيّ، إذ تحوّل الطريق ذاته، الذي كان يوماً شريان حياة، إلى أداة ضغطٍ سياسية تُستخدم لإخضاع مدينةٍ أنهكتها الحروب، واستنزفتها الخيبات المتكرّرة.

شارك

مقالات ذات صلة