مجتمع
أعادت وفاة القاصر السوري مهند محمد الأحمد (14 عاماً)، داخل سجن “الوروار” المخصّص للأحداث في لبنان، الجدل حول واقع السجون اللبنانية وأوضاع الموقوفين السوريين فيها، في ظلّ تضارب الروايات بين الجهات الأمنية وعائلة الضحية، وصمت رسمي متواصل، وسط موجة استنكار من جهاتٍ حقوقية.
وفقاً للتقرير الطبي الصادر عن إدارة السجن، فإنّ الوفاة التي وقعت في 29 أيلول الماضي ناتجة عن “توقف حاد في القلب والرئة”، بينما أكدت العائلة أنّ ابنها “تعرّض لتعذيبٍ مبرح” أودى بحياته، في حين سربت معلومات من داخل السجن بأنّ الشاب “أقدم على الانتحار”.
والد الضحية قال في حديث إلى “وكالة أنباء الموقوفين السوريين في لبنان” (SDNAL) إنّ ابنه كان يعيش في بيروت منذ سنوات، وجرى توقيفه قبل نحو 3 أشهر “من دون أيّ تواصلٍ مع العائلة”.
وأضاف، “ابني احتُجز سابقًا 6 أشهر وهو أصغر سناً ولم يفكر بالانتحار، فكيف يُقال إنّه قتل نفسه هذه المرة؟ ليس لدي شك بأنّ مهند قُتل داخل السجن”.
وأعرب الوالد خلال حديثه للوكالة، عن أسفه لأنّ الحادثة وقعت في سجن مخصص للقاصرين، متسائلًا عن سبب منعه من الاتصال الهاتفي الذي يُسمح به عادة لجميع السجناء.
في الوقت نفسه أفاد شقيق مهند، الذي كان موقوفاً معه بداية ثم نُقل لاحقاً إلى سجن “رومية” المركزي، أنّ أخاه كان “بصحةٍ جيّدة عند الاعتقال”، وأنّهما تعرّضا معاً “للضرب والتعذيب على يد الأجهزة الأمنية قبل تفريقهما”، ثمّ انقطع تواصله به حتى سماع خبر وفاته.
ورغم مرور وقت على الحادثة، لم تصدر قوى الأمن الداخلي اللبنانية أيّ بيانٍ رسمي يوضح ملابسات الوفاة، إلا أنّ تقريراً طبياً أولياً تسلمه أحد أقارب الضحية أشار إلى “توقف حاد في القلب والرئة”، مؤكداً أنّ الأطباء حاولوا إنعاشه “لكن دون جدوى”، بحسب الطبيب الشرعي الذي عاين الجثة في مستشفى الحياة ببيروت.
تقرير الطبيب الشرعي، الذي حصل موقع “سطور” على نسخةٍ منه، نفى وجود أيّ علامات عنف على جسد الضحية، بينما أصر شقيقه لؤي الأحمد الذي شاهد الجثمان، على أنّه لاحظ “كدمات زرقاء على العنق والكتفين وآثار دماء على الجثة”، معتبرًا أنّ هذه العلامات “تناقض القول إنّ الوفاة طبيعية”، رافضاً تسلّم الجثمان قبل عرضه على طبيبٍ شرعي مستقل.
وفي المقابل، نقلت وكالة SDNAL عن مصدرين أمنيين أنّ القاصر “حاول الانتحار داخل مكان احتجازه”، دون الكشف عن دوافعه أو تفاصيل إضافية.
في حديثٍ خاص إلى موقع “سطور” أكد مدير مركز “سيدار” للدراسات القانونية في لبنان، محمد صبلوح، إنّ السجون اللبنانية “تعمل فوق طاقتها بأكثر من 250%”، موضحًا أنّ سجن رومية وحده يضم نحو 3700 سجين رغم أنّه مخصّص لألف شخص فقط.
وأشار صبلوح إلى أنّ الأزمات الاقتصادية وجائحة كورونا فاقمت من سوء الأوضاع، مع تراجع قدرة الدولة على تأمين الغذاء والرعاية، ما تسبّب بارتفاع معدلات الوفيات “نتيجة الإهمال الطبي”، حيث سُجلت أكثر من 40 حالة وفاة منذ عام 2022.
وأضاف أنّ سجن الوروار، الذي يموّله الاتحاد الأوروبي، “يفتقر إلى أبسط مقومات الرعاية، إذ يضم أكثر من 100 قاصر بإدارة محدودة ومن دون مختصين نفسيين أو اجتماعيين”، مشيراً إلى أنّ هؤلاء الأطفال يعيشون “بعزلةٍ تامة ممنوعين من التواصل مع عائلاتهم، في ظل بطء القضاء ورداءة الطعام”، معتبرًا أنّ “الانتحار في مثل هذه الظروف ليس مفاجئًا بل نتيجة متوقعة”.
ما بين جدران السجون اللبنانية، لا يقف الألم عند حدود الاكتظاظ وسوء المعاملة، بل يتجاوزها إلى ما هو أعمق وأقسى التعذيب الذي ما زال يمارس بصمت، رغم كلّ الوعود بالإصلاح والالتزام بالقانون.
وفي هذا السياق، أكد محمد صبلوح أنّ هذه الممارسات ليست استثناءات فردية، بل “نهجٌ مستمر” تتقاسمه الأجهزة الأمنية المختلفة مشيراً إلى أنّه قدّم “مئات الشكاوى أمام القضاء” تثبت استمرار الانتهاكات بحق لبنانيين وسوريين وغيرهم.
كما أضاف أنّ “الاعترافات تُنتزع تحت التعذيب وتفبرك الملفات، بينما تُهمل شكاوى الضحايا دون أيّ تحقيق جدي”، مضيفاً، “كنّا نأمل أن يتغيّر هذا الواقع مع العهد الجديد، لكن للأسف ما زال التعذيب مستمراً كما كان”.
وأوضح أن لا الحكومة ولا القضاء يتحركان “رغم الوعود الكثيرة”، مشيرًا إلى أنّ الأجهزة الأمنية “لا تطبق القوانين ولا تُحاسب”، في وقت “ينكر فيه لبنان وجود المشكلة حفاظًا على المساعدات الدولية التي يتلقاها لتحسين أوضاع السجون”.
وسلّطت وفاة مهند الأحمد الضوء على واقع مأساوي يعيشه الموقوفون، وخصوصاً القاصرون السوريون في لبنان بين تهم غير واضحة، وإجراءات بطيئة وتعذيب موثّق، وصمت رسمي متكرر.
وفي 10 تشرين الأول الجاري توصلت الحكومة السورية إلى اتفاقٍ مع الحكومة اللبناية بتسليم السجناء السوريين غير المدانين بالقتل، وذلك خلال زيارة وفد يرأسه وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى لبنان.
ولفت مدير إدارة الشؤون العربية في وزارة الخارجية السورية محمد طه الأحمد، إلى أنّ هناك كثيراً من التهم الملفقة للموقوفين السوريين في السجون اللبنانية.
ويبلغ عدد السجناء السوريين في لبنان نحو ألفي شخص، عدد كبير منهم ما يزال قيد الاحتجاز على خلفية دعمهم للثورة السورية (2011 / 2024)، أو مشاركتهم في إيصال مساعدات أو دعم لوجيستي لثوار قاتلوا نظام المخلوع بشار الأسد، وفق مصادر سورية.





