فكر
في المشهد السوري اليوم، وبعد سنواتٍ طويلة من الثورة والحرب، لم يبقَ الصراع محصوراً بين النظام ومعارضيه، بل تسلّل إلى داخل المجتمع نفسه على شكل ظاهرة مؤذية تسمى “المزاودة”. هذه الظاهرة التي نبتت في تربة المعاناة الثورية تحوّلت إلى أداةٍ لفرز الناس، وقياس وطنيتهم، وتقييم تضحياتهم، حتى باتت تُستخدم أحياناً ذريعة لإسكات الآراء المخالفة، أو لفرض وصاية معنوية على الآخرين.
المزاودة ليست مجرّد حماس سياسي أو دفاعاً عن قضية، بل هي ممارسة خفية تتلبّس ثوب الأخلاق والحقّ، لكنّها في جوهرها تسعى إلى احتكار الوجع، وكأنّ من تألم أكثر يملك الحقيقة أكثر. تُعبّر عنها عبارات مألوفة مثل “من يحرر يقرر”، أو “نحن حررناكم”، أو “نحن أكلناها أكثر منكم”، وهي جمل تحمل بين طياتها إحساساً مشروعاً بالألم والتضحية، لكنّها تتحوّل في الاستخدام اليومي إلى وسيلةٍ لتبرير إقصاء الآخرين أو تهميش آرائهم، وكأنّ الثورة صارت ملكاً لفئة دون أخرى
الأخطر من ذلك أنّ المزاودة أدت إلى تجميد الحوار الوطني، لأنّ من يملك “رصيد المزاودة” يشعر بأنّه فوق النقاش، فيسكتُ الآخرين بدعوى أنّه دفع الثمن الأكبر. ومع الوقت، فقدت الثورة قدرتها على الاستماع، لأنّ الجميع أصبح يتحدث من موقع الضحية، دون أن يعترف بأوجاع غيره. وهنا تبدأ العدالة في الغياب، لأنّ العدالة لا تولد في ظل المنافسة على المعاناة، بل في ظل الاعتراف المتبادل بها.
من هنا تأتي أهمية العدالة الانتقالية، لا كإجراءٍ قانوني فحسب، بل كعمليةٍ اجتماعية عميقة تسعى إلى إعادة بناء الوعي الجماعي على أساس المساواة في الكرامة والألم. فالعدالة الانتقالية الحقيقية تبدأ من الاعتراف بأوجاع الجميع، لا بترتيبها حسب الانتماء أو الجغرافيا. يجب أن يُعترف بمعاناة كلّ من فقد، وكلّ من اعتُقل، وكلّ من تهجّر، لأنّ الألم السوري واحد مهما اختلفت أسبابه. لكنّها أيضاً مطالبة بتحديد من كان المسؤول عن إنتاج هذا الألم، ومن وقف مع النظام وساهم في استمرار القمع، لا بدافع الانتقام، بل من أجل الحقيقة والمحاسبة. فالعدالة لا تتحقّق بمجرّد العفو أو النسيان، بل بتسمية الفاعلين، وفهم كيف تشكّلت دوائر الجريمة والعنف، ومن استفاد من بقاء الاستبداد.
إنّ الطريق إلى شفاء المجتمع السوري لا يبدأ بالإنكار أو بالمزاودة، بل بالاعتراف. الاعتراف بأنّ الجميع خسروا شيئاً، وأنّ المعاناة ليست امتيازاً سياسياً بل جرحاً إنسانياً مشتركاً. الاعتراف أيضاً بأنّ من مارس القمع، أو برره، أو سكت عنه، يتحمل جزءاً من المسؤولية الأخلاقية والتاريخية. العدالة الانتقالية هي التي توازن بين هذه المستويات من الألم والمسؤولية، فتفتح الباب أمام المصالحة، لا على أساس المزاودة في الوجع، بل على أساس الوضوح في الحقيقة.
إنّ الثورة التي أرادت الحرية والكرامة لا يمكن أن تستعيد معناها إلا إذا تحررت من هذه الزهرة والشوكة السامة التي اسمها المزاودة، وأدركت أنّ الكرامة لا تُقاس بعدد الخسائر، بل بقدرتنا على مواجهة الحقيقة، مهما كانت مؤلمة. عندها فقط يمكن للعدالة أن تكون بداية جديدة، لا امتداداً لصراعٍ قديم بثيابٍ مختلفة.




