سياسة

فرقة الغرباء.. بين إرث الجهاد والدولة الجديدة

أكتوبر 23, 2025

فرقة الغرباء.. بين إرث الجهاد والدولة الجديدة

منذ تأسيسها عام 2013 بريف إدلب الغربي، كانت فرقة الغرباء حالةً فريدة داخل المشهد العسكري في شمال غرب سوريا. فهذه الجماعة التي يقودها الفرنسي ذو الأصول السنغالية عمر أومسين، جمعت مقاتلين أجانب، معظمهم فرنسيون، واحتفظت لنفسها باستقلال تنظيمي وعقائدي واضح عن هيئة تحرير الشام، التي كانت تسعى إلى فرض هيمنة كاملة على إدلب ومحيطها. 

 

وقد شكّل هذا الاستقلال الدائم للغرباء مصدر توترٍ مستمرٍ مع الهيئة، التي رأت في الفرقة جسداً خارج السيطرة وتهديداً للنظام الأمني الذي بنته في مناطق نفوذها. في المقابل، اعتبرت فرقة الغرباء أنّ هيئة تحرير الشام خانت “المهاجرين” وتخلت عن مبادئ الجهاد الأولى، فرفضت الخضوع لتوجيهاتها أو الانضواء تحت مظلتها الإدارية والعسكرية.

 

تعود جذور هذا الصراع إلى مرحلة ما بعد تمدد سيطرة هيئة تحرير الشام في شمال غرب سوريا، حين شرعت الأخيرة في حملة دمج للفصائل الصغيرة، من أجل تأسيس كيان موحد يضمن مركزية القرار. غير أنّ فرقة الغرباء، التي كانت تمثّل نموذجاً لمقاتلين مهاجرين يفضّلون البقاء مستقلين، واجهت هذه الجهود بالرفض. ففي عام 2018، اعتقلت الهيئة عدداً من عناصر الفرقة، بينهم قيادات ميدانية، بتهمة تجاوز الأنظمة الأمنية وإيواء مطلوبين أجانب، قبل أن تُفرج عنهم لاحقاً نتيجة وساطات، دون أن يُفضي ذلك إلى تسوية دائمة. وبقيت العلاقة بين الطرفين تتأرجح بين الهدوء الحذر والمواجهات الصامتة، إلى أن تحوّل الخلاف من مسألةٍ إدارية إلى صراع وجود بين تنظيمٍ يسعى إلى احتكار القوة وجماعة ترى نفسها حارسة للإرث الجهادي العابر للحدود.

 

 

عمر أومسين، الذي يُعدّ الشخصية المركزية في هذا الصراع، يحمل خلفية فكرية متشددة، ويُنظر إليه كأحد أبرز الوجوه التي ربطت بين المهاجرين الفرنسيين والساحة السورية منذ عام 2013. فقد انتقل من مدينة نيس الفرنسية إلى إدلب، حيث أسس شبكته الخاصة من المقاتلين، وأنشأ في ريف إدلب الغربي ما عُرف لاحقاً بـ”مخيم الفرنسيين”. في هذا المخيم، فرض أومسين نظاماً صارماً يستند إلى تفسيره الخاص للشريعة، وأنشأ مدارس دينية مغلقة، وأخضع النساء والأطفال لقواعد قاسية، ما جعله في نظر السلطات المحلية بمثابة “إمارة صغيرة” خارج أيّ رقابة. هذه الممارسات، إلى جانب تقارير تحدثت عن خطف وابتزاز وتمويل غير شرعي.

 

ما حدث في مخيم حارم، لم يكن مجرّد عمليةٍ أمنية محدودة، بل تطور طبيعيّ لمسارٍ طويل من الصدام بين سلطة تسعى إلى توحيد القرار العسكري والأمني وبين فصيل مسلح يرفض الخضوع. قوات الأمن السورية التي اقتحمت المخيم في 22 تشرين الأول 2025 استخدمت الأسلحة المتوسطة وطائرات الاستطلاع، بعد اتهام أومسين بخطف طفلة فرنسية واحتجازها داخل المخيم، وهو ما اعتُبر القشة التي قصمت ظهر العلاقة بين الطرفين. اندلعت اشتباكات عنيفة في محيط حارم استمرت لساعات، وأحاطت القوات بالمخيم بالكامل، بينما نشر أنصار الغرباء تسجيلات تهدّد بالرد وتدعو المهاجرين إلى “نصرة إخوانهم”.

 

في المقابل، كان أومسين يرى أنّ ما يفعله محاولة لحماية المهاجرين من الملاحقة والتهميش، وأنّ الهيئة، ثمّ لاحقاً أجهزة الأمن السورية الجديدة، تمارس “الظلم ذاته” الذي مارسه النظام القديم ولكن باسم الشرعية الجديدة. وفي هذا السياق، أصدرت فرقة الغرباء بياناً بالتزامن مع الحملة الأمنية ضد مخيم “الفرنسيين” في حارم، يعكس مزيجاً من القلق الوجودي والشعور بالعزلة والخيانة في آنٍ واحد، إذ حاولت الفرقة من خلاله الظهور بموقع “الضحية المستهدفة” لا المتمرّد الخارج عن القانون.

 

فالنص يبدأ بإشاراتٍ استخبارية تزعم امتلاك معلومات عن نية جهاز الأمن تنفيذ عملية ضدّ “مخيم الفرنسيين” في حارم، في محاولة لمنح الجماعة صورة الفصيل المتيقظ الذي يواجه مؤامرة خارجية. ويتّهم البيان الأجهزة الأمنية بالتنسيق مع صحفيين أوروبيين لصالح قنوات فرنسية، في إعادة إنتاج لخطاب “المظلومية الجهادية” الذي طالما استخدمته التنظيمات العابرة للحدود لتبرير عزلتها. كما يربط البيان بين التحرك الأمني وبين “تعاون الحكومة مع القوى الخارجية ضد المهاجرين والأنصار”، في تأكيد على أنّ الغرباء ما زالوا يرون أنفسهم امتداداً لـ “المجاهدين الأوائل” الذين جاؤوا إلى سوريا عام 2013، لا كجماعة محلية ضمن منظومة الدولة الجديدة.

 

ومن خلال هذا الخطاب، تحاول الفرقة استدعاء ذاكرة التضامن القديمة بين المقاتلين الأجانب وتذكير جمهورها بدورها في بدايات الصراع، لكنّها في الوقت نفسه تكشف عن مأزقها البنيوي، إذ لم يعد هذا الخطاب يجد مكاناً في بيئة تسعى إلى ضبط كلّ سلاحٍ خارج المؤسسات الرسمية. بذلك، يتحوّل البيان إلى شهادة على نهاية مرحلة المقاتلين المهاجرين المستقلين، وإلى إعلان غير مباشرٍ بأنّ زمن “الإمارات الصغيرة” قد انتهى مع صعود سلطة مركزية جديدة لا تعترف بشرعية التنظيمات العابرة للحدود.

 

تُظهر الحادثة الأخيرة أنّ قضية المقاتلين الأجانب ما زالت تشكّل تحدياً معقداً في شمال غرب سوريا، رغم التحولات السياسية والعسكرية التي أنهت معظم التنظيمات القديمة. فوجود جماعة كفرقة الغرباء، التي تستمد شرعيتها من تاريخها الجهادي لا من أيّ إطارٍ وطني أو إداري، يُعيد طرح السؤال حول كيفية التعامل مع المقاتلين المهاجرين الذين يرفضون الاندماج في البنية المحلية الجديدة. في نظر السلطات، لم تعد هذه الجماعات تمثل “إرثًا ثوريًا” أو “رمزاً للجهاد العالمي”، بل خطراً أمنياً يجب احتواؤه أو تفكيكه. أما في نظر الغرباء، فإنّ ما يجري هو استمرار لحملة تهميشٍ تستهدف “المهاجرين” وتقطع صلتهم بالمعارك التي خاضوها منذ أكثر من عقد.

 

يمكن القول إنّ ما حدث في حارم هو إعلان غير مباشرٍ عن نهاية مرحلة المقاتلين المهاجرين المستقلين في سوريا، وبداية سياسة جديدة قائمة على دمج أو تفكيك كلّ الكيانات الخارجة عن السيطرة. فبعد أن كانت هذه الجماعات جزءاً من مشهدٍ أوسع تحكمه الفصائل المتناحرة، أصبحت اليوم خارج السياق تماماً. واللافت أنّ عمر أومسين، الذي كان رمزاً للمقاتلين الفرنسيين في إدلب، تحوّل إلى نموذجٍ يُلاحَق من قبل نفس البيئة التي احتضنته ذات يوم. وبين رواية الدولة التي ترى فيه متمرداً يهدّد الأمن العام، وروايته هو التي تصوّر نفسه ضحية خيانة، يبقى الثابت الوحيد أنّ المشهد الجهادي في الشمال السوري بدأ يدخل بمرحلة ضبط لبقايا التيارات العابرة للحدود.

 

هكذا، تختصر حادثة اقتحام مخيم الغرباء في حارم مساراً طويلاً من التحوّلات داخل الساحة السورية، من صعود المهاجرين كقوة مؤثرة، إلى انحسارهم أمام سلطة محلية تسعى إلى تثبيت سيادتها. ومع نهاية هذا الصراع، يبدو أنّ صفحةً جديدة تُفتح في شمال سوريا، عنوانها تفكيك الموروث الجهادي القديم وإحلال سلطة جديدة لا مكان فيها لجماعاتٍ تتحدث باسم عابر للحدود.

شارك

مقالات ذات صلة