آراء
طشت الديمقراطية
أحيانًا وأنا اقرأ في كتب المذكرات أتوقف عند الطرفة والنكتة للتسلية وسط هذه القراءة للتاريخ والشخصيات، وتستوقفني القصص التي تُظهِر الشخصيات وهي تقدِّم شهاداتٍ عن نفسها وجيلها. ومن شروط الطرفة، حضور السياق، وسرعة البديهة، والقدرة على تضمينها في الحديث. مؤخرًا، اكتشفت شرطًا موضوعيًّا آخر، وهو حضور النديم القادر على تذوُّق النكتة والإحماضة المميّزة والملحة العذبة، النفس الثقيلة ليست لديها القدرة على الإحساس بالظرف فضلًا عن الضحك.
أحيانًا النكتة السياسية تسبب مشكلة للكاتب، مثل نكتة محمود السعدني على السادات: “جالنا قبله واحد موّتنا من الخوف، وده هيموتنا من الضحك”، وصدر قرار باعتقال السعدني.
المصريون أخف دمًا، لأنّ السخرية تتطلب ألا تأخذ نَفْسَك مأخذ الجد، أن تتنازل عن بعض الأنا من أجل ضحكة، والضحك غالٍ والقهقهة لها ثمن. كثير من الشعوب الأخرى تخاف من خدش الأنا وأيّ مظهرٍ من مظاهر التعوُّد وكسر الرهبة. المصري مخلِص للإفيه والنكتة ولو كانت على نفسه، المهم أن تكون المفارقة بارعة ولاذعة.
يحكي رؤوف عباس في مذكراته “مشيناها خطى” عن رجلٍ كان من النوعية التي هَوَتِ التسلُّق على كلّ تنظيمات الثورة، وله كتاب ضخم نُشر في منتصف الستينيات بعنوان “الاتحاد الاشتراكي وعاء الديمقراطية“، وكان زملاؤه يفضّلون دائمًا أن يستبدلوا بكلمة “وعاء” كلمة “طشت” كلّما ورد ذكر الكتاب على لسان أحد.
يقول كامل زهيري عن الضحك: “حين تنطلق نكتة بارعة ذكية لا تخلو من المكر الفني وسط الكرب ينزل الخيال فجأة بالباراشوت، ويأتيك الفرج لتتعلّق بحباله، وتتخيله طوق النجاة من الكرب أو الضيق أو المأزق أو حتى الفاجعة!”.
“ياما في الحبس مظاليم“
يقول الوزير والكاتب فتحي رضوان: “عبد الناصر كان إنسانًا بكلّ ما في الإنسان من حسناتٍ وعيوب، وعناصر قوة وعناصر ضعف. ولا أنسى أنّي كنت أتغدى معه في بيته قبل إعادة بنائه، وكنا قد فرغنا من عمل، ورُحنا نستعيد ذكريات ما قبل الثورة. فقلت له: لقد اعتُقلتُ مع حسن البنا لسبب لم أتبيَّنه، إذ لم يكُن لي نشاط في فترة الاعتقال، ثمّ أُفرج عنّي بلا سبب أيضًا. فقال: وما وجه الاستغراب؟ نحن نفعل أيضًا أحيانًا مثل ذلك، اعتقال وإفراج بلا سبب”. من كتاب “72 شهرًا مع عبد الناصر“ – فتحي رضوان.
القافية حكمت
في اعتقالات سبتمبر التي قام بها السادات، واعتقل فيها فؤاد سراج الدين وهيكل، وكان معهم صلاح عيسى، وكانوا يكتبون جريدة في المعتقل… كتبوا ذات مرة: “إلى الله نشكو أننا بمنازلٍ… تحكَّمَ في آسادِهن كلابُ”. وفي مرة ثانية: “ودعا عليك اللهَ في محرابهِ… الشيخُ والقسيسُ والحاخامُ”. فقال أحد المعتقلين عن السادات: «بس الحاخام ما بيدعيش عليه»، فقال صلاح عيسى: «معلش.. القافية تحكم». وفي الصباح نقلوه إلى سجن التأديب بتهمة إلقاء قصائد شعرية تُعرِّض بإدارة السجن!
مي زيادة وإسماعيل صبري
”كان الشاعر إسماعيل صبري يُعجَب بالأديبة مي ويتردد على صالونها في أواخر حياته. وكان يحرص على شهود مجلسها يوم الثلاثاء، وسافر يومًا إلى مدينة الزقازيق، واضطر إلى التأخر لبعض حاجته، فبعث إليها يوم الاثنين هذه الأبيات:
رُوحي على بعض دُورِ الحيِّ حائمةٌ
كظامئِ الطيرِ توّاقًا إلى الماءِ
إنْ لَم أُمتِّعْ “بميٍّ” ناظرَيَّ غدًا
أنكرتُ صُبحَكَ يا يومَ الثلاثاءِ”.
غاندي وشيخ العرب في لندن
ينقل الطيِّب صالح في كتابه “المضيئون كالنجوم” ما حكاه لورد بتلر في كتابه الأول “فن السياسة” أنّ المهاتما غاندي حين جاء إلى مؤتمر المائدة المستديرة، ورفعوا الجلسة للغداء، أحضروا للمهاتما غاندي -لأنّه كان نباتيًّا- طعامًا خاصًّا من محلات “فورتنم آند ميسن“، وهي محلات غالية تتسوق منها الطبقات العليا، أحضروا له عنبًا وجُبنًا ولبنًا رائبًا وغير ذلك. يقول بتلر: “قلت للمهاتما إنّ طعامه الفقير ذاك قد كلَّف أكثر بكثير ممّا لو تغدى معنا”.
قرأت ذات مرّة أنّه حينما حضر الشيخ السوداني عوض الكريم أبو سن إلى لندن، ضِمْنَ وفد التهنئة بتنصيب الملك جورج الخامس، أعطى ماسحَ أحذية إنجليزيًّا جنيهًا إسترلينيًّا، فقال له أحد أعضاء الوفد: “دا كتير جدًّا يا شيخ العرب”، فردَّ قائلًا: “يمكن بُكرة يجيبوه لنا مفتش في السودان”.
الزِّفْت المتولي
قرأ شيخ القراء المتولي في جامع طنطا فلم يُعرف لأنّه قاهريٌّ، وأخطأ في القراءة فقال له أحد القرّاء: “ليتك تقرأ على المتولي”، فقال: “ما أنا الزِّفت المتولي”.
ونقل الشيخ سالم القحطاني هذه الحكاية الطريفة: استقدم معهد مصري في الأربعينيات أستاذًا هنديًّا، وكان لا يتكلم إلا بالفصحى، فهاله حديث الطلاب بالعامية، فضلًا عن أخطائهم اللغوية، وقرر أن يُنهي تعاقده ويعود إلى بلاده. فسأله عميد المعهد: “عايز تسيبنا ليه؟ إحنا زعلناك في حاجة؟”، فقال: “أخاف على عربيتي!”، فقال العميد: “طب ما تسيبها في الكراج”.
في جحيمٍ مِن القُبَل
سافر الكاتب محمد السعدني إلى لندن، وكتب عن رحلته: “ومهما قال الرجل الشرقي فسوف يبقى الشارع الأوروبي على حاله، وسوف يظل يمتزج فيه أزيز الموتورات برنين القُبلات! ولن تصدقني بشأن الرجل الذي اقترب مني منذ أيام وقد ظنَّني من أهل البلد، يسألني: أين يوجد شارع كذا؟ فأشرت عبر أزواج العشاق على الرصيف قائلًا له: سِيب حُضنين وتلات بُوسات واحْوِد يمينك!”.
جلاجل الأعمال
حقّق المخرج كمال عطية في قضية بين بعض المنتجين، وجاء أحد الخواجات يشكره قائلًا بِلُغته العربية العرجاء: “أنت من الرجال القلاقل الذين يحلّون الأمور”، يقصد “القلائل”، فردَّ كمال عطية عليه: “وأنت أيضًا خير من يقوم بجلاجل الأعمال”.
حبيبتي.. عيناك بُلْغتان
حكى صلاح عيسى في مقدمة مجموعته القصصية “بيان مشترك ضدّ الزمن” أنّهم كانوا في السجن -صلاح عيسى والأبنودي وتيمور الملواني وصبري حافظ- يسخرون من الشعر الحديث، فألَّفوا قصيدة تقول:
“حبيبتي
عيناك بُلْغتان
عيناك كجزمتَي مِنْخارِ ليلِنا العميق
وحيث سرتُ تحتَ سُورِ الداخليةِ العريض
حبيبتي
قرَّرتُ أن أبيض”.
ويُعلِّق حلمي سالم: “وواضح أنّهم كانوا يُشَنِّعون على شِعر صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، لا سيّما شعرهما العاطفي”.
القنديل والبُفتيك
كثيرون حدَّثوا الأديب يحيى حقّي عن تأثير روايته قنديل أم هاشم فيهم، لكن لفت نظر الأديب قول كاتب يمني له: “لقد أحسست أنك تَصِفُني حين أعود من القاهرة إلى اليمن”. هنا القاهرة تحلّ محلّ باريس في القصة.
لكن العبارة الأطرف، ما قاله بائع كتب قديمة عنها: “أُمّال، عارفها، مش القصة اللي بتحكي عن الواد اللي سافر أوروبا وكان بياكل بُفتيك وأبوه بياكل طعمية في مصر؟”.
الزعيم والشاعر
يحكي لنا أحمد شوقي ذات يوم أنّه كان مع صديقه مصطفى كامل وهو يُعِدُّ خطبته الشهيرة التي ألقاها في كازينو زيزينيا بالإسكندرية، وقد وصل فيها مصطفى إلى قوله: “لا حياة مع اليأس”، فقال شوقي: “ولا يأس مع الحياة”، فطرب مصطفى من هذه العبارة الخطابية وأضافها إلى خطبته. ولقد طالما غذّى شوقي نهضة مصطفى كامل بقصائده الرائعة. من كتاب طاهر الطناحي “على خطى العباقرة”.
نور على نور
كان الشيخ صالح البليهي -رحمه الله- يُحِبّ شرب الشاي، فَسُئِل عند الكعبة وهو على كرسيّ التدريس عن حُكْم شُربه بماءِ زمزمَ فقال: “نور على نور”.
ويقول الدكتور عبد العزيز الخويطر في مذكراته: “وكانت إحدى قريباتنا من كبيرات السن تُرَدِّد: “يا رب أسألك عند شلعات الأبصار، ترمين بالجنة ولا كن شٍ صار”. من ملتقطات عبد العزيز العويد.
فاطمة رشدي ومصرع كليوباترا
مَثَّلَت فاطمة رشدي مسرحية “مصرع كليوباترا”، تلك الرواية الشعرية للشاعر أحمد شوقي أمير الشعراء. كانت تنساب ألفاظ المسرحية على ألسنة الممثلين دون لحن أو خطأ لغوي. يحكي مَن شاهدها في المسرح ويقول: “وما زالت تتراقص أمام أعيُنِنا فاطمة رشدي وقد اتسعت عيناها وفغرت فاها عندما أمسكت بالحية لتقول: وشربت السمَّ مِن فيك… ذلك المنظر الذي لم يشأ وزير المعارف وقتها، حافظ حسن، أن يسجِّل إعجابه به، فتوجَّه إليها في فترة الاستراحة وهنَّأها وقبَّل يدها وألقى بنُكتته البارعة: “حقًّا، أنت أحسن واحدة رأيتها تعرف تتلدغ”.
أمين نخلة.. الشاعر الجزار
ذكر أحمد الجندي الأديب السوري، صاحب المذكرات الجميلة “لهو الأيام”، عن الشاعر أمين نخلة أنّه من شعراء الكلمة والصورة، فهو فنان رفيع القدر. قال له أحمد الجندي مرّة: إنّني غير معجب بأبياتك القديمة.
فحملق إليه أمين نخلة يسأله: أيّ أبيات؟
فقال الجندي: التي تقول فيها:
“أنا لا أُصدِّق أنَّ هذا الأحمرَ المشقوقَ فَمْ
بل وردةٌ مخضلَّةٌ حمراءُ، مِن لحمٍ ودَمْ
أكمامُها شَفَتانِ، خُذ رُوحِي وعلِّلْني بِشَمْ
كُلُّ الشفاهِ أُحِبُّها.. كم مرةٍ قالت: نعم”.
فلم يتكلم نخلة، وأتم الجندي نقده قائلًا: إنّك تُذكِّرني بدكاكين القصابين (الجزارين)، فما هذه الألفاظ المخيفة: مشقوق، حمراء، لحم، دم؟! أكنت في مشرحة؟!
قصف لذيذ
قرأتُ ذات مرة عن سيِّدة اسمها ليلى طنوس، كانت تعمل في إذاعة البي بي سي، وكانت جريئة، وكانت أكثرهم إبداعًا في الذكاء اللماح. مرةً قال لها مستر تومسون، مدير التحرير في القسم العربي، وكان متغطرسًا وعلى شيء من السماجة: “تعالَي وتحدَّثي إليَّ في مشكلاتك، فأنا رجل متواضع”. فأجابته ليلى بسرعة: “ولكنّي لستُ متواضعةً إلى هذا الحد”!
نقيق الضفادع
حضر المغنّي عبده الحامولي حفل زواج، وسبَقه للغناء محمد عثمان، وكاد الناس يخرجون من ثيابهم طربًا، فلما جاء الدور على الحامولي غنى نفس الدور، فكان غناء محمد عثمان إلى غناء عبده كنقيق الضفادع جنب تطريب الكروان. فصاح عثمان وقال: الراجل ده جاي يجامل وإلا جاي يموتني؟!
دمياط
يتهم الدمياطيون أهل بورسعيد بمسؤوليتهم عن وصفهم ظُلمًا بالبخل عبر الترويج لعديد من الحكايات، ومنها أنّ الدمياطي غالبًا ما يسأل ضيفه: تتعشى وإلا تنام خفيف؟ وعندما يشعر أنّ ضيفه يفكر في المبيت لديه يُحرِجه بسؤال آخر: يا ترى تحب تنام عندنا ولا تاخد راحتك في اللوكاندة أحسن؟
ترجمة الأغنية
كان الشيخ حمزة فتح الله، عميد مفتشي اللغة العربية، قد اتفق مع صديقه شاعر القُطرين خليل مطران على ألا يتحدثا إلا باللغة الفصحى، وعلى الرغم من هذا فقد أخذ كلّ منهما يُشَنِّع على الآخر، فقال مطران إنّه ذهب لزيارة الشيخ حمزة في منزله فسمع مطربًا يغني أغنية مطلعها: “إن كان كدا والا كدا، لاصبر على كيد العدا”.
فسأل مضيفه عن الأغنية فقال الشيخ حمزة إنّ المطرب يغنّي: “إن كان كذا أو كذاك أو كذلك، فلأصبرنَّ على كيد الأعداء”. قرأتها في كتاب “هوامش المقريزي” لصلاح عيسى.






