سياسة
القنيطرة اسمٌ يمرّ في كتب التاريخ والجغرافيا كما تمرّ الذاكرة على جرحٍ قديم لم يلتئم. محافظة سورية سمعنا بها كثيراً، وعاشت في جزءٍ من وجداننا كسوريين، رمزاً للهزيمة مرّة، وللصمود أخرى. غير أنّ كثيرين لا يعرفون عن القنيطرة سوى أنّها واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، بينما يغيب عن الذاكرة أنّها كانت يوماً مدينة تنبض بالحياة، تقف على تلال الجولان شامخة تُطلّ على فلسطين، قبل أن تتحول إلى شاهدٍ صامتٍ على واحدةٍ من أكثر الصفحات وجعاً في تاريخنا المعاصر.
فعلى تلك الهضبة الواقعة على بعد 67 كيلومتراً جنوب غرب العاصمة دمشق، تمتد القنيطرة بجراحها المفتوحة على الذاكرة، مدينةٌ دمّرها الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب عام 1974، حين حوّل مبانيها إلى أطلالٍ مهدمة وشاهدةٍ على وحشية آلة القتل والاقتلاع. ومنذ ذلك الحين، انتقلت الحياة إلى مدينة “خان أرنبة” التي أصبحت المقرّ الإداري الفعلي للمحافظة، حيث يسكنها اليوم نحو 90 ألف سوري، بينهم ما يقارب 20 ألف نازحٍ فروا من ريفي درعا ودمشق خلال الثورة السورية، هرباً من بطش نظام الأسد.
وبسبب موقعها الحساس على خطّ التماس مع الكيان الإسرائيلي، وكجزءٍ من المنطقة العازلة التي نصّ عليها اتفاق فض الاشتباك عام 1974، وتخضع لإشرافٍ مباشر من قوة الأمم المتحدة لفض الاشتباك (UNDOF)، عادت القنيطرة في الأشهر الأخيرة إلى واجهة الأخبار بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول الماضي، لتتحوّل مجدداً إلى مسرحٍ لبلطجة الاحتلال الإسرائيلي وتوغّلاته، وموطناً جديداً لجريمةٍ قديمة تتكرّر على مرأى العالم وصمته.
فخلال الأشهر الستة الماضية، تصاعدت الانتهاكات الإسرائيلية في محافظة القنيطرة بشكلٍ غير مسبوق. ففي الفترة ما بين الرابع والرابع عشر من آذار/ مارس 2024، سُجلت 9 توغلات عسكرية إسرائيلية مدعومة بجرافاتٍ وآليات ثقيلة، رافقها نصب نقاط تفتيش مؤقتة، وإجبار السكان المحليين على تعبئة استبيانات قسرية.
تضمنت تلك الاستبيانات أسئلة دقيقة عن المعلومات الشخصية والعائلية، وبيانات الملكية، والانتماءات السياسية والعسكرية السابقة، إلى جانب أسئلة غير مباشرة عن الخلفيات الدينية والطائفية، ما كشف عن نية مبيتة لاستخدام تلك البيانات مستقبلاً في إعادة هندسة البنية الاجتماعية والسياسية للمنطقة بما يخدم مشروع الاحتلال.
وفي الحادي والعشرين من أيار/ مايو 2025، دخلت دوريات إسرائيلية جديدة إلى شمال ريف القنيطرة، ونصبت حواجز مؤقتة على الطريق الواصل بين قريتي خباثا الخشب وعين البيضا، حيث عمدت إلى تفتيش المارة والتدقيق في هوياتهم، قبل أن تنسحب في اليوم التالي. إلا أنّ الانسحاب لم يكن سوى تمهيدٍ لموجةٍ جديدة من التوغلات في الأيام اللاحقة، ترافقت مع مصادرة أراضٍ زراعية وبناء قواعد عسكرية إسرائيلية وُصفت إعلامياً بـ “المؤقتة” داخل الأراضي السورية.
وفي خضم تلك التطورات، شهدت مدينة السلام –المعروفة سابقاً باسم مدينة البعث– مظاهرات حاشدة خرج فيها أبناء القنيطرة، أصحاب الأرض والحجر، رفضاً للوجود الإسرائيلي وتوغلاته المتكررة. رفع المتظاهرون شعارات تؤكد تمسكهم بالأرض السورية، ورفضهم لأيّ واقعٍ جديد تحاول إسرائيل فرضه تحت غطاء أمني أو إنساني مزعوم.
وكعادته في خرق القوانين الدولية واستمرار الانتهاكات، أقام الاحتلال الإسرائيلي في الأيام الأخيرة حواجز عسكرية بعدة مناطق من ريف القنيطرة، أبرزها بين الصمدانية الشرقية وخان أرنبة، ومفرق الحرية شمالاً، وأوفانيا وجباتا الخشب، حيث اعتدى جنوده على مدنيين وهددوهم بالسلاح. كما استأنف الاحتلال عمليات التجريف في حرش الشحار بجباثا الخشب أعقبها مداهمات ليلية، قبل أن تتوغل وحداته نحو قرى أم اللوقس وصيدا الحانوت في الريف الجنوبي، مستخدمة أكثر من عشرين آلية عسكرية، أقامت خلالها حواجز مؤقتة وفرضت قيوداً صارمة على حركة السكان، في مشهد يعكس تصعيداً ممنهجاً لسياسة الاحتلال في المنطقة.
في الوقت الذي استغلّت فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي الفراغ الأمني الناتج عن انهيار مؤسسات الدولة بعد سقوط النظام السوري، وسعت مساحاتها الاستيطانية بدعمٍ من سياساتها التوسعية المستمرة، كان ذلك نتيجة مباشرة لإهمال نظام الأسد وفشله في حماية الأراضي السورية وتأمين الاستقرار، ممّا أتاح للإسرائيليين استخدام أدواتهم العسكرية بلا رادع. وفي هذا السياق، جاءت دعوات بعض السوريين في الجنوب، وعلى رأسهم مليشيا الهجري وأنصاره، لدخول الأراضي السورية والمشاركة في الاحتلال، لتزيد الطين بلة وتعمّق مأساة الاستيلاء على الأراضي، مستغلة ضعف الدولة وعدم نضوج مؤسساتها الوليدة. وما يحدث في القنيطرة ليس “انفلاتاً أمنياً” أو “حركة عرضية”، بل امتداد طبيعي لسياسات إسرائيل التوسعية، واستثمار للخلافات المجتمعية، فيما تجاوزات الاحتلال من نصب الحواجز وتفتيش المدنيين وترهيب الآمنين ما هي إلا علامات على أنّ الاحتلال الإسرائيلي لن يكتفي بإجراءات أمنية، بل سيسعى لفرض سيطرته بغية إقامة تجمعات استيطانية وتنفيذ سياسة أمر واقع لتصبح جزءاً من مشروعه الأكبر.
لتبقى القنيطرة شاهدة على تاريخٍ من المعاناة والصمود، رمزاً لصراعٍ لم ينته بعد بين الأرض والاحتلال، وبين الحق والاغتصاب. وما تشهده اليوم من توغلات إسرائيلية وانتهاكات متكررة ليس سوى تذكير بأنّ الحماية الحقيقية للأرض والشعب تحتاج إلى إرادةٍ قوية ومؤسسات قادرة على الصمود. وبينما يسعى الاحتلال لفرض واقع جديد بالقوة، يبقى الوعي السوري والصمود الشعبي الحصن الأخير أمام مشاريع التغيير القسري، لتبقى القنيطرة في وجدان السوريين مدينة للذاكرة، وليست مجرّد أطلال يُبكى عليها وتُنسى.





