سياسة
منذ نشأة دولة الاحتلال على أكتاف الجيش والعصابات الصهيونية٬ شكّلت مسألة تجنيد الشبان المتدينين أو “الحريديم” وهم “طلاب المدارس الدينية اليهودية”، محل خلاف شديد بين التيارات المختلفة سياسياً واجتماعياً ودينياً، لكن الصدامات بين الأوساط العلمانية وبين التيارات الحريدية (وكلها صهيونية بالمعنى الأيديولوجي الإحلالي الاستعماري) انتقلت اليوم من المساومات السياسية بين الأحزاب، إلى أخطار تمزق المجتمع الصهيوني وتهدد تماسكه الهش خصيصاً بعد السابع من أكتوبر.
وبالرجوع للخلف تاريخياً٬ فإن إعفاء الطلبة المتدينين المعروفين بـ”الحريديم” بدأ عند نشأة دولة الاحتلال٬ حيث أعفى المهاجر البولندي ورجل العصابات الصهيونية “ديفيد بن غوريون”٬ أوّل رئيس وزراء لـ”إسرائيل”٬ نحو 400 طالب من الخدمة العسكرية ليتسنى لهم تكريس أنفسهم للدراسة الدينية. حيث كان يرى بن غوريون في تلك الخطوة ضرورة -رغم أنه كان علمانياً غير متدين- لإبقاء التقاليد اليهودية “حية” بعد أن كادت تُمحى خلال ما عرف بـ”الهولوكوست” ضد اليهود في أوروبا.
ويشكل المتدينون اليهود نحو 13% من عدد سكان الكيان البالغ قرابة 9.7 مليون نسمة، وهم لا يخدمون في الجيش، ويقولون إنهم يكرسون حياتهم لدراسة التوراة٬ وذلك في الوقت الذي يُلزم القانون كل إسرائيلي وإسرائيلية فوق 18 عاماً بالخدمة العسكرية.
ولا تُعرّف الغالبية الأعم من “الشعب الإسرائيلي” نفسها باعتبارها “متدينة”، لكن تأثير الحركة الحريدية أصبح واضحا في الحياة الاجتماعية والسياسية في دولة الاحتلال٬ وأصبح لديهم قوى وأحزاب ذات ثقل متصاعد تعبّر عنهم داخل الكنيست والحكومة. وفي عام 2015 قررت المحكمة العليا في “إسرائيل” إلغاء القانون الذي يقضي بإعفاء “الحريديم” من الخدمة العسكرية، واعتبرت أنه يمس بـ”مبدأ المساواة” بين المواطنين.
ومنذ 2017، أخفقت الحكومات المتعاقبة في التوصل إلى قانون توافقي بشأن تجنيد الحريديم، حتى عاد الأمر إلى الواجهة هذه الأيام، حيث سرّعت معركة “طوفان الأقصى” من درجة الغليان والصراعات الداخلية بين الداعمين لتجنيد الحريديم من العلمانيين وبين الرافضين له من المتدينين٬ إذ أصبح جيش الاحتلال بحاجة لقوة بشرية جديدة ترفد صفوفه مع حجم الخسائر الكبيرة جداً التي يتكبدها من بين أفراده٬ سواء في عدد القتلى من الجنود والضباط أو في عدد الجرحى والمصابين والمعوّقين والمضطربين نفسياً الذين لم يعودوا قادرين على العودة إلى تأدية خدمتهم العسكرية٬ حيث يقول موقع “والا” العبري في تقرير نشر مؤخراً أن الجيش بات يعاني من نقص شديد في الجنود وهو بحاجة لتجنيد 40 ألف مقاتل جديد ووضعهم في فرقة جديدة تسمى “داوود”٬ حيث سيتولى جنرال متقاعد يدعى موطي باروخ -كان يتولى قيادة التدريب والتأهيل في القوات البرية- مهام تشكيل الفرقة.
وبحسب الموقع فإن أسباب النقص في أعداد الجنود هو الحرب المتواصلة في غزة منذ 7 أكتوبر٬ والعمليات العسكرية في الضفة الغربية٬ والاستنزاف الحاصل على حدود لبنان٬ إذ يريد جيش الاحتلال شن عملية واسعة النطاق ضد حزب الله لردعه عن إطلاق عشرات الصواريخ والطائرات المسيرة من جنوب لبنان٬ وإعادة الأمان للمستوطنات الشمالية التي أصبحت خاوية على عروشها منذ نحو 9 أشهر.
كما يتصاعد الرفض بين جنود الاحتياط لمواصلة الخدمة، لاسيما في غزة، لأسباب مختلفة بحسب وسائل إعلام عبرية٬ أهمها أنهم يعتبرون أن الدولة أخلت بمبدأ “المساواة” وقررت الاستمرار بإعفاء “الحريديم” من التجنيد والقتال٬ في الوقت الذي ترسلهم لنيران الحرب في غزة. وقبل نحو أسبوعين وقّع العشرات من الضباط وجنود الاحتياط في الجيش على رسالة لرفض العودة إلى الخدمة بقطاع غزة حتى لو تعرضوا للعقوبات، بحسب ما نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية.
فيما طالب المئات من أهالي الجنود الإسرائيليين أبناءهم بإلقاء السلاح “فوراً” ووقف القتال والعودة إلى منازلهم، بعد تصديق الكنيست الإسرائيلي على قانون إعفاء “الحريديم” من التجنيد في 11 يونيو/حزيران 2024، حيث أبلغ الأهالي وزير الجيش الإسرائيلي يوآف غالانت ورئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي بما طلبوه من أبنائهم٬ قائلين إن “حكومة نتنياهو قامت بخيانة مواطنيها، وتسليم حياة أبنائنا للموت، ومن أجل البقاء السياسي تحافظ الحكومة على حياة الآخرين آمنة”٬ حيث يرفض الحريديم “تحمل أعباء الحرب معنا”.
ومع تصاعد احتمالات اندلاع حرب وشيكة على الحدود الشمالية مع لبنان في ضوء حالة الإرهاق والغضب الشديدين اللذين يسودان بين جنود وضباط الاحتياط من العمليات العسكرية الفاشلة في قطاع غزة٬ قررت الحكومة اليمينية الإسرائيلية الإعلان عن عزمها إجراء تعديل قانوني سريع يقضي بتمديد فترة الخدمة العسكرية لدى الاحتياط٬ فيما أعلن رئيس هيئة أركان الجيش الجنرال هليفي، عن حاجة الجيش الفورية إلى بضعة آلاف من المجندين الجدد.
لكن حكومة نتنياهو وحلفاءه اليمينيين والصهيونيين الدينيين مثل سموترتش وبن غفير يرفضون أن يشمل ذلك طلبة المدارس الدينية البالغ عددهم نحو 60 ألفاً. فيما يعتمد شعبياً رئيس حكومة الاحتلال على هؤلاء وأحزاب أخرى مثل “يهودية التوراة المتحدة” و”حزب شاس”، التي تعتبر أن إعفاء “الحريديم” من التجنيد الإجباري عامل أساسي للحفاظ على قواعدها الانتخابية في المعاهد اليهودية الدينية التي تدعم نتنياهو٬ حيث يرون أن الجيش مكان قد يفسد التزام الديني الشديد لدى هؤلاء٬ وأن التفرغ لدراسة التوراة لا يقل أهمية عن الخدمة العسكرية.
ويرى الحريديم أنهم يلتزمون بنصوص توراتية تخص الفصل بين الجنسين وتمنع الاختلاط والعلاقات بين الرجال والنساء، ويلتزمون بيوم السبت اليهودي؛ حيث لا يعملون فيه ويخصصونه لزيارة الكنس وقراءة التوراة فقط. وبحسب تعاليمهم، يعدّ اليهود المتشددين “دراسة التوراة الضمان الوحيد للحفاظ على بقاء إسرائيل، وسلاح لحماية شعبها من الأخطار والزوال”.
لكن الضربة التي قد تطيح فعلياً بنتنياهو المأزوم في غزة والجبهة الشمالية وتطارده تهم ارتكاب جرائم جماعية من “العدل” و”الجنائية” الدوليتين٬ وتهم سابقة بتلقي الرشوة وخيانة الأمانة والفساد٬ ويرفضه مئات آلاف الإسرائيليين الذين يتظاهرون يومياً في الشارع لخلع حكومته الفاشلة٬ هو قرار “المحكمة العليا في إسرائيل” يوم الثلاثاء 25 يونيو/حزيران 2024 بإنهاء إعفاء “الحريديم” من التجنيد٬ وقررت بالإجماع بهيئة من 9 قضاة، أنه لا يوجد إطار قانوني يسمح بعدم تجنيد الحريديم بالجيش.
وقررت المحكمة أيضاً أنه “في حالة عدم وجود إطار قانوني للإعفاء من التجنيد، لا يمكن الاستمرار في تحويل أموال الدعم إلى المدارس الدينية وللطلاب الذين لم يحصلوا على إعفاء أو الذين لم يتم تأجيل خدمتهم العسكرية”. بالتالي يجبر ذلك القرار الحكومة بسحب التمويل من أي معهد ديني لا يمتثل طلابه لإخطارات التجنيد.
وهذا ما يمثل أسوأ كوابيس نتنياهو٬ حيث يحظى ائتلافه الحالي بأغلبية ضئيلة تبلغ 64 مقعداً في الكنيست (البرلمان) المؤلف من 120 عضواً، ما يتطلب منه في كثير من الأحيان الاستسلام لمطالب الأحزاب الصغيرة مثل اليهود المتشددين التي يعتمد عليها لمنع انهيار الحكومة في أي لحظة٬ وهو ما يعني أن المحاكمة وأبواب السجن سترحب به٬ وستنتهي مسيرته السياسية إلى الأبد٬ وستعني انكساره على صخرة صمود غزة وربما إنهاء الحرب.
ولا شك أن قرار المحكمة الآن سيذكي نيران الانقسام بين المجتمع الصهيوني وتياراته ويزيد من الضغوط على نتنياهو اليائس الذي يريد الهروب إلى الأمام وشن حرب واسعة ضد حزب الله في لبنان، بالتزامن استمرار الحرب الكارثية في غزة، وتحذيرات الأمريكيين المتتالية من مخاطر اتساع رقعة الحرب في المنطقة٬ في وقت باتت “إسرائيل” فيه غير جاهزة بعد لمثل هذا التصعيد عسكرياً وسياسياً واقتصادياً٬ ويعاني مجتمعها من تشظ وانقسام شديدين، بسبب أن رئيس حكومة محاصر يريد لبعض الفئات فقط من المجتمع الاستعماري القتال والموت لأجل “الدولة”٬ فيما يريد من الأخرى عدم القتال ودعمه في الانتخابات.