مشاركات سوريا
الكاتبة: رغد مشوح
عاد الصيف وللمرّة الأولى منذ 8 سنوات، عشتُ صيفًا عربيًّا حقيقيًّا في بلدي لكن هذه المرّة في مدينة دمشق التي تبعد عن دير الزور حوالي 5 ساعات. عاد محمّلًا برائحة الدبشي…ذاك الاسم الذي لا يعرفه أحد كما نعرفه، نحن أبناء دير الزور، نعرف الدبشي من صوته حين يُضرب براحة اليد، ومن حُمرة قلبه إذا ابتُسم لنا. حين كان يأخذنا والدي إلى الفرات، كنّا نسبح ونضحك ونصرخ ونغرق في طفولتنا، ثمّ نركض نحوه، وهو يقطع الدبشي كنّا نلتقط الحزوز من يده قبل أن تسقط، نأكل بشراهة بريئة، يختلط ماء البطيخ بماء النهر، ونحن لا نعرف من أيّهما كنا نرتوي.
رائحة أشجار الزيزفون كانت تطوّق النهر كعِقد، ويُراقص صوت المولية الديرية نسيمَ الليل، قادماً من بعيد من صوت مذياعٍ صغير على حجر، أو من شباكٍ مفتوحٍ على الحنين.
وفي الليالي، كنّا ننعس، نغفو على أرصفة الكورنيش، أجسادنا النحيلة تسبح في دفء الأضواء الصفراء، وآباؤنا وأمهاتنا يواصلون السهر، يضحكون، يتحدثون عن أشياء لم نفهمها يومًا…لكنّنا كنّا نحب أن نكون جزءًا من تلك السهرة، ولو بالنوم قربها.
شممت في شوارع الشام ذات صباح رائحة خبز التنور، فكانت كيدٍ ناعمةٍ انتشلتني من الحاضر، وأعادتني إلى حوش “حبّابا”. المرأة الشامية التي أحبت دير الزور وعاشت فيها أغلب عمرها، كما لو أنّها وُلِدت من نهرها، كانت تخبز لنا خبز التنور بيديها الواسعتين، وتلبس عباءة الحباري كما تفعل نساء المدينة، وتتكلم لهجتنا بلهفة مَن أحبّت فأخلصت، لم تكن تعرف التمييز بين مدينة ومدينة، ولا بين لهجة ولهجة، كانت تعرف فقط أنّنا “أهل”، وأنّ السوري لا يكون إلا لأخيه.
كانت تطبخ لنا ثرود البامية الزورية، كانت تزرع في حوش المنزل شجرة نارنج وشجرة ياسمين وكأنّها بزرعها لهما في حديقة المنزل تحاول احتضان رائحة الشام مدينتها الأم، وتسقيها من نهر الفرات.
وكما نسجت حبّابا خيوط الشام في بيت ديري، جدتي الأُخری “نانا“ كانت تحمل مدينتها دير الزور إلى حلب، كمن يخبئ نهراً في قلب مدينة. بقيت جذورها مشرّعة في الفرات حتى وهي بين أزقة حلب، تطبخ لنا الكبب الحلبية بطعمٍ كأنّ الفرات يمد يده ليصافح حلب، ويهمس لنا بأسرار المدينة، بين نسيمه العذب ودفء طفولتنا في حديقتها. كانت تزرع الفل في الحديقة التي كنّا نسهر فيها على هواء حلب المنعش، نحلق فيها في ذكريات الطفولة، بين ندى الفرات وبرد حلب وثلجها. وتغمرنا بنفسها الطيب وقلبها الدافئ الرقيق، كأنّها تورّثنا سرّ المدن حين تتعانق، وسرّ الجدّات حين يخبئن الوطن في قلوبهن.
جداتي كانوا المثال لكل السوريين الذين لم يُهزموا رغم 50 عامًا من محاولة الطمس والتفرقة والتشويه. كلما أرادوا أن يجعلونا شعوبًا مقسّمة، كانت الجدّات تصنع لنا طبخة واحدة، بلهجةٍ واحدة وقلب واحد.
في كلّ مدينةٍ مررت بها، كنت أحمل دير الزور في صدري كأيقونة خفية، أستنشق رائحة الدبشي فأتذكر النهر، أسمع لهجة شامية فأبتسم لحبابا، أتذوق أكلاً لذيذاً فأتذكر نانا، ألمح ضوءًا أصفر فأنام على أرصفة الكورنيش في قلبي فأنا بنت دير الزور، بنت الفرات و خبز التنور، بنت الحنين الذي لا يُمحى، ولا يُعوض.
لم يفلح الغياب في أن ينتزعني من جذوري، ولا النظام في أن يفرق بين قلبي ومدينتي. بل فهمت أكثر أن الوطن لا يُختصر في مدينة، بل في التفاصيل التي تربينا عليها، في الملامح التي لا تتغير، وفي الذكريات التي لا تُنهب.
ذلك النظام الذي لطالما نظر إلينا كأبناء “بادية”، وكأنّ البادية نقص لا كمال، وكأنّ مَن يسكن الأرض المفتوحة لا يسكن قلب الوطن. جعلونا نشعر وكأنّ انتماءنا مؤقت وناقص وهامشي. لكنّنا كنّا نعرف، نحن أبناء الشرق، أنّنا العمق والامتداد، أنّنا جزءٌ من الحكاية لا هامشها. كبرتُ على نظرات الاستعلاء تلك، من كتب التاريخ التي غيّبت دير الزور، إلى المناهج التي لم تذكر الفرات إلا كخط أزرق في الخريطة. لكنّنا نحن السوريين كنّا نعرف أنّ دير الزور تروي البلاد حين يجفّ لسانها، وتحمل عبقها حين تنسى هويتها، وتتحد مع بردى والعاصي والفيجة.
واليوم، بعد سنوات من الغربة والحرب، نعيش بدايات مرحلة جديدة، نحن جيل يرفض أن تتم تفرقته على أساس أصله أو أن يُهمّشَ، كلنا سنكون يداً واحدة لنعمر سوريا.. سوريتنا التي تليق بنا. نحن جيل يعرف أن شمال سوريا لا يكتمل دون جنوبها، أن قاسيون الذي يعانق دمشق كعقد من الياسمين، يلتف أيضاً حول المحافظات السورية كلها، أن قلعة حلب هي حصن متين يشرّف الشمال السوري. نحن اليوم وبعد 14 عاماً نمدُّ يدنا لا لنحفر خندقًا أو لنفترش العراء، لا لنحزم أمتعتنا ونترك أبوابنا مفتوحة خلفنا، بل نمد يدينا سوياً لنعيد ترميم الذاكرة، لا بلون الطائفة بل بلون البيوت القديمة، الأغاني، الأكلات، لهجات الجدّات، وروائح خبز التنور. نريد سوريا التي حلمنا بها نحن، لا التي فرّقها الطغاة، سوريا التي لا تُصنّف أبناءها، ولا تُقصيهم، ولا تضعهم في خانات العشائر أو الأحياء أو الولاءات.
سوريا التي نكتبها الآن ليست على مقاس حزب، ولا تحت سلطة بندقية، إنّها على مقاس الوجع الذي حملناه، وعلى مقياس الحب الذي لم ينطفئ رغم كلّ شيء.
الحنين لا يُعوّض، لكنّه يُكتب. وأنا أكتب.. لأبقى قريبة من ذاتي، ومنهم، ومن سوريا التي نولدها من جديد، بكلمة، بحنين، وبإيمانٍ لا يموت.




