رسّخت الدعاية الإسرائيلية صورة جيش لا يُقهر، مدعوم بأحدث التقنيات الغربية، وببنية تحتية قتالية واستخباراتية متطورة جعلت من نفسها في الوعي الجمعي العربي الموحد ضدها شعبيًّا نموذجًا إقليميًّا تهابه الأنظمة، المتواطئة منذ أكتوبر ٢٠٢٣ في جريمة الإبادة الجماعية الإسرائيلية.
إسرائيل اليوم تواجه تهديدات معقدة ومركبة، لا من جبهة واحدة بل من عدة جبهات متزامنة. هذا التحقيق يسعى على حلقات ثلاث لتفكيك مكامن الضعف التسلحية والبنيوية في الترسانة العسكرية الإسرائيلية، والوقوف على نقاط الانكشاف التي لا تبدو للعيان من خلف ”بريق” القوة، ليثبت انتفاء أنّ ”كلّ ما يلمع ذهبًا“.
مكامن ضعف الجيش الإسرائيلي
١. هشاشة الجبهة الداخلية وتعدد الجبهات
انطلاقًا، الجيش الإسرائيلي صُمّم لحماية عصبة من المحتلين، من ثم بمشروع إنشاء الدولة بمباركة غربية طُوّر فيها الجيش على حروب قصيرة خاطفة تُحسم سريعًا ثم تنقل الصراع إلى طاولة السياسة. لكن هذا الجيش وحاضنته الشعبية الاستيطانية يجد نفسه اليوم ممدودًا على أكثر من جبهة: غزّة في الجنوب، لبنان في الشمال، الضفة الغربية المحتلة في الداخل، وسورية وإيران في العمق الإقليمي. هذا التعدد يخلق تشتيتًا للقوات الإسرائيلية وإنهاكًا للاحتياط، ما يفقده تركيز القوة ويُضعف تأثير الضربة الأولى. الاعتماد الكبير على قوات الاحتياط –التي تمثل عماد الجيش– يجعل الاقتصاد والمجتمع الإسرائيليين شريكين في كلّ حرب. أدلل على هشاشة الجبهة الداخلية إليكم أدلتي:
- وفق تقارير INSS (معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي) لعامي 2022 و2023: الجيش الإسرائيلي يعتمد على نحو 465,000 جندي احتياط مقابل 170,000 فقط من القوات العاملة الدائمة.
- استطلاعات إسرائيلية تشير إلى أنّ أكثر من 30٪ من جنود الاحتياط يواجهون صعوبة في التوفيق بين الخدمة والعمل المدني.
- كلّ تعبئة جزئية للجيش في أكثر من جبهة تكلف الاقتصاد الإسرائيلي ما بين ٢–٣٪ من الناتج المحلي في أشهرٍ قليلة.
- بيانات وزارة المالية الإسرائيلية: الكلفة اليومية للحملة الأخيرة في غزة تجاوزت ٣٠٠ مليون شيكل يوميًّا (تقديرات متحفظة).
- الأدلة التحليلية وقراءة البيانات:
يُظهر تقرير INSS بعنوان “The Reserve Forces in the Gaza War: Challenges for the Continuation of the Fighting” أنّ الجيش الإسرائيلي استدعى نحو ٣٦٠,٠٠٠ جندي احتياط ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، لكن التنفيذ العملي شمل حوالي ٢٢٠٠٠٠ منهم فقط، ويُشير التقرير إلى أنّ قدرة هؤلاء الجنود على الاستمرار في الخدمة تحت وطأة الضغوط النفسية والمهنية والعائلية مهددة بالتآكل مع استمرار العمليات.
بالموازاة، يركز تقرير INSS – Memo211 على أنّ التهديد الاستراتيجي الأكثر جوهرية لإسرائيل هو حرب متعددة الجبهات (multi-theater, multi-front campaign)، ماليًا تقديرات بنك إسرائيل/المالية حتى مايو 2 هي نحو ٢٥٠ مليار شيكل لِحرب غزة في تقديرات ٢٠٢٣–٢٤، مع إمكانية إضافة بُعد العجز المالي (رويترز: عجز ٦٫٩٪ من الناتج في ٢٠٢٤)، ما يُرسِّخ فرضية أنّ إسرائيل تواجه استنزافًا مركبًا في الجبهة الداخلية كلّما طال أمد الحرب وتعددت الجبهات.
كلّ ذلك يوضح فجوة الاستنزاف عند اتساع الجبهات واستطالتها. الاحتياط يستند إلى نقاطٍ قابلة للتوثيق: تعبئة ٢٠١٤ بلغت تقريبًا ٨٤ ألفًا (ويكيبيديا/تقارير ما بعد الحرب)، مقابل ٣٦٠ ألفًا في أكتوبر ٢٠٢٣ (CRS، رويترز، واشنطن بوست)، ثمّ موجات إضافية في ٢٠٢٥ بلغت نحو ٥٠–٦٠ ألفًا (AP/رويترز)، ما يعكس الضغط المتنامي على المجتمع والاقتصاد.
إعلاميا رصدت:
- تصريحات رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق أفيف كوخافي (٢٠٢٢) بأنّ “الجيش غير مهيأ لحرب طويلة على أكثر من جبهة”.
- تحليلات إعلامية داخلية: هآرتس وذا ماركر نشرا تحقيقات عن ضغط الاحتياط على الاقتصاد وتأثيره على قطاعات التكنولوجيا والطب.
- معهد الديمقراطية الإسرائيلي أصدر دراسة عن “تراجع الرغبة في الخدمة العسكرية مع تصاعد الانقسامات السياسية”.
- تقارير RAND وCSIS تؤكد على “خطورة سيناريو الحرب متعددة الجبهات على قدرة إسرائيل على الحفاظ على التفوق النوعي”.
- القواعد الجوية والبرية الإسرائيلية (رمات دافيد، تل-نوف، حتسريم، نفاطيم، رامون…) تقع جميعًا ضمن نطاقات نيران متقاطعة من غزّة جنوبًا ولبنان شمالًا والضفة شرقًا، وهو ما أسقطْتُه على طبقات Sentinel/Planet لتحديد المواقع والمدد بدقة وإضافة نصف أقطار للصواريخ والدرونز فوجدت أنّها داخل نطاقات نيران متقاطعة ممّا يقلّص هامش المناورة.
- يُمكن لخصوم إسرائيل، أن يشنوا هجمات متزامنة على جبهات شمالية وجنوبية وداخلية، ما يُجبرها على توزيع مواردها وحسم أي جبهة تدريجيًّا.
استدلالا وبتتبع الأدلة الاستقصائية البصرية الثلاثة ، تكشّف لي عمق هشاشة الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
٢. القوة الجوية
تُعتبر القوةُ الجوية والاستخبارات التقنية حجر الزاوية في العقيدة العسكرية الإسرائيلية. الطائرات المقاتلة من طراز إف-٣٥ وإف-١٥ المطورة، والأقمار الاصطناعية، وحرب السيبرانيات، كلّها عناصر تفوق تعده إسرائيل ساحقًا على خصوم تقليديين.
وإليكم المفاجآت المذهلة التي اكتشفتها خلال عملي على استقصاء هذا الملف:
التفوّق الجوي الإسرائيلي حقيقي ومؤثر تكتيكيًّا، لكن هشّ على مستوى الاستدامة والاستجابة في حروب مطوّلة أو متعددة الجبهات. هشاشته تنبع من اعتماد على منصات مكلفة (مثل F-35) وسلاسل توريد خارجية، تعرّض متزايد لتهديدات الدرونز والعمليات السيبرانية، وإجهاد لوجستي ومالي يبني قيدًا على القدرة العملياتية مع امتداد النزاع.
لدي خمس فرضيات محورية:
- F-35 مهمة لكنّها مكلفة وتقيد الاستدامة — تكلفة تشغيلها وصيانتها عالية وحساسيتها للبرمجيات كذلك وقطع الغيار باهظة. تكلفة التشغيل والاستدامة (Platform sustainment) لماذا ضعف؟ منصات الجيل الخامس تمنح قدرًا تكتيكيًّا لكن لكلّ ساعة طيران تكلفة تشغيلية عالية، والصيانة مرتبطة بقطع غيار وبرمجيات خارجية. دليلي في هذا الاستقصاء هو مطابقة أرقام الأسطول (Jane’s / IISS) مع تقارير صناعية عن تكلفة ساعة الطيران، وسجلات تعمير/استلام تُظهر ضوابط زمنية على توريد قطع حرجة. الفارق بين التفوق التكتيكي وقدرة الاستدامة يتبلور عندما يتضاعف الطلب التشغيلي على الطائرات في حروب متعددة الجبهات. هنا مباشرة يعني نقطة ضعف ل F-35 الإسرائيلية.
- تعرض جاهزية الطيران لسلاسل التوريد الخارجية (Supply-chain vulnerability) — أي تأخير أو تقييد خارجي ينعكس سريعًا على الجاهزية. لماذا ضعف؟ اعتماد متكرر على إمداداتٍ من الخارج يجعل الجاهزية مشروطة بالسياسة واللوجستيات العالمية. راجعت نسخًا من عقود الشراء حصلت عليها من تسريبات استخباراتية، وإعلانات التوريد، ومذكرات صيانة تُبيّن أطرًا زمنية وحساسية لقطع محددة. أيّ قيود سياسية أو لوجستية على سلسلة التوريد تعني نقصانًا سريعًا في جاهزية بعض المنصات.
- الدرونز المسلحة وقابلية الإشباع تغيّران معادلة الردع الجوي (UAV saturation)— وأيّ هجمات كثيفة منظّمَة يمكن أن تُجهد منظومات الاعتراض التقليدية. والدرونز أسلحة رخيصة ويمكن إطلاقها بكثافة؛ اعتراض كلّ منها بصاروخ اعتراض مكلف يخلق معادلة استنزاف اقتصادية. بتوثيق موجات هجمات الدرونز/الصواريخ وأرقام الاعتراض الفعلية، ومقارنة تكلفة اعتراض مقابل تكلفة كلّ هجوم بشكلٍ تقريبي مقابل حالات “إشباع” موثّقة تبين هشاشة سلاح الردع وضيق تحت هجمات مكثفة من أكثر من جهة. التكلفة النسبية للاعتراض تتحوّل إلى ورقة ضغط استراتيجية إذا استُخدمت أساليب الإشباع بكثافة.
- الفضاء السيبراني يُشكّل ساحة ضغط على البنى الجوية واللوجستية — اختراق أنظمة الصيانة أو شبكات C2 يضعف دور الطيران. أنظمة الصيانة، إدارة البيانات، وشبكات C2 متصلة رقميًّا؛ هجوم إلكتروني ناجح يُعطّل جداول صيانة أو بيانات تؤثر على جاهزية الطائرات. مكمن الضعف أنّ التعرّض السيبراني لا يهاجم الطائرة نفسها بالضرورة بل يقصف قلب منظومة جاهزيتها.
- الإجهاد العملياتي والضغط المالي يضعف هامش المناورة — تكلفة الاعتراض وساعات الطيران والذخائر تُسرّع الاستنزاف المالي والتشغيل.
بالدليل اليوم حاججت هشاشة الجبهة الداخلية وسلاح الجو الإسرائيلي. في الجزء القادم من هذا التحقيق الكاشف عن حقيقة الجيش الإسرائيلي أفند أوجه ضعف أنظمة الدفاع الصاروخي -القبة الحديدية- والقوات البرية الإسرائيلية.