آراء

غزة على خطى غرناطة: هل يكرر الرئيس ترامب ما فعله الملك فرناندو؟

أكتوبر 6, 2025

غزة على خطى غرناطة: هل يكرر الرئيس ترامب ما فعله الملك فرناندو؟

 

حين وُقِّعت اتفاقية غرناطة بين القادة المسلمين في آخر معاقل الأندلس والملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا، بدت تلك الوثيقة في ظاهرها عهدًا كريمًا يحفظ للمسلمين حياتهم ودينهم وأملاكهم، ويؤمّن لهم حرية العبادة والرحيل. وقّع ملوك غرناطة الاتفاقية وهم يظنون أنّهم يشترون بها الأمان والكرامة وحرية الشعب العربي الغرناطي. فقد نصّت المعاهدة على ألا يُكره أحد على ترك دينه، وألا تُنتزع الممتلكات من أصحابها، وأن تبقى المدارس والمساجد قائمة، وأن يُترك للقضاة والعلماء أمر الفصل في شؤون الشريعة. كانت تلك البنود أشبه بمظلّة أمان في لحظة انكسار كبرى بسقوط غرناطة تحت الحكم القشتالي النصراني.

لكن ما إن استقرّ الملك الجديد في غرناطة حتى تحوّلت تلك البنود من ضمانات إلى حبرٍ على ورق. جاء الراهب خيمينس دي سيسنيروس، المفوّض من الملكة الكاثوليكية، يحمل مشروعًا مختلفًا تمامًا عن التسامح. وبدلًا من أسلوب الإقناع اختار طريق الضغط والقسر، فسُجن المسلمون في غرناطة وأُجبروا على إعلان تحولهم إلى النصرانية، وصودرت الكتب العربية، وامتلأت السجون بالممتنعين عن التنصّر. وفي يومٍ واحد أُجبر الآلاف على اعتناق المسيحية. لم يكن ذلك مجرّد خرق إداري أو سياسي، بل كان انقلابًا كاملًا على العهد والاتفاقية برمّتها. عندها انفجر الغضب العربي الغرناطي، واندلعت الانتفاضات في أحياء المدينة دفاعًا عن الدين والكرامة. ومع كلّ خطوة من خطوات القمع، كانت تسقط ورقة جديدة من أوراق الاتفاق، ويتبدد الوعد الذي اعتُبر يومًا ضمانة لسلام انتقال السلطة.

لقد شكّلت تجربة غرناطة مثالًا صارخًا على قدرة السلطة الغازية الغالبة على تفريغ المعاهدات من مضمونها متى تغيّرت الظروف وموازين القوى والمصالح. لم يكن ذلك مجرّد حدثٍ تاريخي عابر، بل درسٌ دائم في العلاقة بين النصوص التاريخية والواقع الذي نعيشه اليوم. فالعهد إن لم يُحمَ بتوازن قوى حقيقي يصبح صوريًّا أكثر من كونه فعليًّا، والإكراه الديني والضغط على الهوية يحوّلان الحماية إلى أداةٍ للسيطرة. وما حصل في ذلك الزمان كان خرقًا إنسانيًّا فاضحًا قبل أن يكون عيبًا قانونيًّا، لأنّه ألغى إرادة الناس وأجبرهم على ما لا يريدون، فحوّل المعاهدة إلى سلاحٍ بيد القامع بدل أن تكون درعًا للمقهور.

ولمن يرغب في التعمق في تلك المرحلة المظلمة من تاريخ الأندلس، يمكنه مشاهدة حلقتي مع بودكاست “روايتهم” على اليوتيوب، التي تكشف أسرار تلك الفترة وتعرض تفاصيلها الصادمة بأسلوب شيّق يربط الماضي بالحاضر، حيث سقطت غرناطة وانطلقت محاكم التفتيش بقيادة خيمينس دي سيسنيروس بتفويضٍ كامل من الملكة القشتالية، بما حملته من أدوات تعذيب وحشية وانتهاكات مروّعة باسم الدين والسياسة.

واليوم، حين نسمع عن الوعود السياسية في النزاعات الكبرى، كما يحدث الآن من تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه غزّة، نلمس صدى غرناطة في خلفية المشهد. فترامب يَعِد بوقفٍ عاجلٍ وفوري للحرب بشرط تسليم الأسرى والقتلى الإسرائيليين، ويضمن –كما يقول– ألا تُعتدى غزة مجددًا، وأن يتوقف القصف الجوي، وتدخل المساعدات فورًا، وتبدأ خطة الإعمار، وتُدار غزة بإدارةٍ فلسطينية وطنية. تبدو تلك البنود كوثيقةٍ جديدة تُبرم في لحظة حربٍ قاسية، تحمل في ظاهرها الطمأنينة، لكنّها تثير في باطنها كثيرًا من القلق.

فالإعلام يتلقف التصريحات ويقدّمها على أنّها عهدٌ جديدٌ واتفاقية إنسانية لإنهاء المأساة، غير أنّ الواقع على الأرض أكثر تعقيدًا بكثير. الشروط غامضة، والأطراف متوترة ومتحفزة، وموازين القوى مختلّة، والأهداف الخفية تتحكم أكثر من البنود المعلنة. وفي لحظةٍ معينة قد تُستخدم تلك الوعود لامتصاص الغضب الدولي، أو لكسب أوراق تفاوضية، أو لشراء الوقت لغرضٍ ما –الله أعلم به– أو لتجميل المواقف أمام العالم بادعاءاتٍ أخلاقية وإنسانية دون نيةٍ حقيقية لتنفيذ وقفٍ كاملٍ للحرب.

إنّ المقارنة هنا ليست لإدانة شخصٍ بعينه، بل لإبراز نمطٍ تاريخي يتكرر في أشكالٍ مختلفة. فالوعود التي تُمنح في زمن الحرب كجسرٍ نحو السلام قد تتحوّل –حين تتبدّل الظروف– إلى أدوات ضغطٍ جديدة أو أوراقٍ للتلاعب. ففي غرناطة، ظنّ المسلمون أنّهم ضمنوا حريتهم بتوقيع وثيقة، لكنّها نُقضت عندما تبدّلت موازين المصلحة. واليوم نخشى أن تكون غزّة هي غرناطة أخرى: تُمنح الوعود بوقف الحرب مقابل شروط، لكن دون ضماناتٍ حقيقية قد تُفرغها من معناها كما أُفرغت معاهدات الأمس، ويصبح فرناندو هو ترامب الجديد.

ولذلك لا نملك اليوم إلا أن نراقب بحذرٍ بالغ كل ما يُدار ويُعلن، وألا نسلّم أوراقنا قبل أن نرى ما يطمئن إليه القلب والعقل، وأن نحرص على إشراك أكبر قدر من الوسطاء لتثبيت أيّ اتفاقٍ أو وعد. فالعبرة ليست في النصوص ولا في التوقيعات، بل في موازين القوة التي تحميها، وفي صدق النوايا التي تصونها.
والله وحده يعلم ما تخفي الصدور وما تنطوي عليه السرائر.

شارك

مقالات ذات صلة