مجتمع

مشروع “قدرات” بين تمكين الشباب السوري وآفاق تطويره

سبتمبر 24, 2025

مشروع “قدرات” بين تمكين الشباب السوري وآفاق تطويره

أطلقت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مشروع “قدرات” بوصفه مبادرة وطنية رائدة لتعزيز مراكز تمكين الشباب السوري، في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة من بطالة مرتفعة وتراجع دور المؤسسات التعليمية. ويهدف المشروع إلى الاستثمار في رأس المال البشري عبر إتاحة فرص التدريب والتأهيل، ولا سيما للفئات الأكثر هشاشة مثل الأشخاص ذوي الإعاقة وضحايا الحرب والمجتمعات المتضرّرة، بما يربطهم بسوق العمل ويمنحهم مسارات واقعية نحو الاندماج والإنتاج.

 

ويرتكز المشروع على مقاربة شمولية تجمع بين التدريب المهني من خلال دورات عملية في مجالات الكهرباء والحاسوب والخياطة والزراعة وصيانة الهواتف، والإرشاد الوظيفي الذي يقدّم استشارات مهنية فردية تساعد الشباب على إعداد السيرة الذاتية وصقل مهارات المقابلة والبحث الفعّال عن فرص عمل، إلى جانب الشراكات مع منظمات محلية ودولية لفتح مجالات التدريب والتشبيك مع القطاع الخاص وضمان استدامة فرص التشغيل.

لا يقتصر مشروع “قدرات” على التخفيف من نسب البطالة فحسب، بل يتجاوز ذلك ليشكّل جسراً اجتماعياً يساهم في إعادة بناء الثقة بين الأفراد والمؤسسات، ويعزّز الاستقرار المجتمعي، ويدعم مسار السلم الأهلي عبر تمكين الشباب من استعادة دورهم كطاقة إنتاجية فاعلة في المجتمع.

 

 

البعد الاقتصادي لمشروع “قدرات”

يأتي مشروع “قدرات” استجابة مباشرة لأحد أبرز التحديات التي تواجه سوريا اليوم، وهو ارتفاع معدلات البطالة وتراجع فرص العمل المنتج، خصوصاً بين الشباب. فبحسب تصريح وزير الاقتصاد نضال الشعار بأن البطالة في سوريا لا تتجاوز 60%، وهو ما يجعل أي مبادرة لتمكين الشباب وتدريبهم ذات أهمية قصوى.

 

من هذا المنطلق، يُتوقّع أن يسد المشروع الفجوة بين مخرجات التعليم التقليدي واحتياجات سوق العمل عبر تدريب مهني متخصص يركز على المهارات العملية المطلوبة، مثل الحرف اليدوية، المهن الصناعية، الخدمات التقنية، والمهارات الرقمية؛ حيث إنّ هذه التدريبات تتيح للشباب الانتقال من دائرة البطالة والاعتماد على المساعدات إلى دائرة الإنتاج والمشاركة الفاعلة في الاقتصاد الوطني.

 

يمكن للمشروع أن يؤدي دوراً في تنشيط سوق العمل المحلي من خلال رفد القطاعات المتضرّرة بالكفاءات المدربة، الأمر الذي يساهم في تحريك عجلة الاقتصاد وإعادة بناء البنى التحتية الاقتصادية. ومن زاوية أخرى، يشكّل المشروع منصة لدعم المشاريع الريادية الصغيرة والمتوسطة، إذ يوفر التدريب على إدارة الأعمال والابتكار، مما يمكّن الشباب من تأسيس مشاريعهم الخاصة، وبالتالي خلق فرص عمل إضافية بدلاً من الاكتفاء بالبحث عن وظيفة.

الاستثمار في الشباب من خلال هذا المشروع يُعد استثماراً في رأس المال البشري طويل الأمد، وهو ما أثبتته تجارب دول عديدة خرجت من أزمات مشابهة، حيث كان التدريب المهني والتمكين الاقتصادي للشباب حجر الأساس في إعادة الإعمار وبناء اقتصاد أكثر مرونة واستدامة.

 

في هذا الإطار يقول الباحث الاقتصادي أدهم قضيماتي “تكمن أهمية هذه المشاريع عبر سد الفجوة بين الاحتياجات والخبرات وإعادة تأهيل الشباب الذين لا يملكون خبرة ويبحثون عن فرص عمل ومساهمتهم في بناء الاقتصاد السوري، مع التنويه على أنّ عملية التأهيل تحتاج لوقت كون سوريا خارجة من حرب وتعاني من آثارها”.

 

 

البعد الاجتماعي لمشروع “قدرات”

لا يقتصر المشروع على كونه برنامجاً لمواجهة البطالة وتوفير فرص العمل، بل يتجاوز ذلك ليؤدي دوراً اجتماعياً بالغ الأهمية في إعادة ترميم النسيج المجتمعي السوري الذي أنهكته سنوات الحرب. فالمشروع يوفّر بيئة آمنة للشباب تتيح لهم تطوير مهاراتهم الحياتية والاجتماعيّة، وتعزّز لديهم روح المبادرة والمشاركة، ما يجعله أحد أدوات تعزيز السلم الأهلي والحد من عوامل التهميش والإقصاء التي غالباً ما تقود إلى التوترات المجتمعية.

 

إحدى أبرز ركائز المشروع هي إدماج الفئات المهمّشة، مثل الأشخاص ذوي الإعاقة، والمشرّدين، وضحايا الحرب، عبر إتاحة برامج تدريب وتأهيل خاصة بهم، بما يضمن مشاركتهم الفاعلة في المجتمع، ويحوّلهم من متلقّين للمساعدة إلى أفراد منتجين قادرين على إعالة أنفسهم وأسرهم، كما يشكّل المشروع فرصة لتقليص الفجوة بين الأجيال وبين مختلف مكونات المجتمع السوري، إذ تلتقي فيه شرائح شبابية متعددة على أرضية مشتركة من العمل والتدريب والتعاون.

 

وعبر شراكاته مع مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الدولية، يساهم المشروع في نشر ثقافة المسؤولية المجتمعية والتطوع، ويعزّز قيم التضامن والعمل الجماعي، بما يحوّله إلى فضاءٍ اجتماعي مفتوح لإعادة بناء الثقة داخل المجتمع، وترسيخ مفهوم المواطنة الفاعلة كمدخلٍ أساسيّ لإعادة الإعمار الإنساني قبل الإعمار المادي.

 

في هذا الإطار يقول قضيماتي “من المهم استهداف الشباب الذين فقدوا تعليمهم بداية الثورة السورية عندما كانوا أطفالاً وإعادة تأهيلهم مهنياً وعلمياً”.

 

 

التجارب الدولية المشابهة

تظهر تجارب عدد من الدول الخارجة من الحروب أن الاستثمار في تدريب وتمكين الشباب يعتبر ركيزة أساسية في إعادة البناء الاجتماعي والاقتصادي.

  • سيراليون: بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 2002، أطلقت الحكومة بدعم من الأمم المتحدة برامج لإعادة دمج الشباب والجنود السابقين عبر التدريب المهني والدعم النفسي الاجتماعي؛ حيث كان الهدف معالجة آثار الحرب على الفئات الأكثر هشاشة ومنحهم فرصاً عملية للعودة إلى المجتمع، وقد أثبتت الدراسات أنّ هذه البرامج ساهمت في خفض مستويات العنف، وزيادة معدلات الالتحاق بالتعليم والعمل.
 
  • جنوب السودان: ركزت مبادرات ما بعد اتفاق السلام عام 2005 على الشباب المتأثرين بالنزاع من خلال برامج التعليم غير النظامي والتدريب قصير المدى، وقد كانت الدوافع واضحة وهي استعادة الطاقات الشابة التي فقدت فرص التعليم بسبب الحرب، وتزويدها بمهاراتٍ عملية تساعد على كسب الرزق، وبالفعل ساعدت هذه البرامج على خفض البطالة في المجتمعات المحلية، وعززت القدرة على التعايش والاستقرار المجتمعي.
 
  • أوكرانيا: عقب اندلاع الحرب عام 2014 وتجددها في 2022، أُطلق برنامج الهوية الوطنية الأوكرانية عبر الشباب “UNITY” بالشراكة بين الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) ومنظمة IREX بهدف تمكين الشباب من مواصلة تعليمهم في بيئات آمنة، وتزويدهم بالمهارات الرقمية والمجتمعية؛ حيث ساعد البرنامج على إعادة آلاف الطلاب إلى الفصول الدراسية، ورفع مستوى ثقتهم وإحساسهم بالهوية الوطنية، إضافة إلى تمكينهم من المشاركة في مبادرات محلية للتنمية المجتمعية.
 
 

آفاق تطوير مشروع “قدرات”

تعتبر آفاق تطوير المشروع واسعة وقابلة للبناء بما يجعله نموذجاً مستداماً على المدى الطويل، ومن أبرز هذه الآفاق إمكانية تحويل مراكز التمكين إلى كيانات تعليمية ومهنية متكاملة على غرار نموذج الكلية (College) البريطاني والأوروبي؛ حيث تقدّم هذه الكليات برامج قصيرة ومتوسطة المدى تجمع بين الدراسة النظرية والتدريب العملي، وتمنح شهادات معترف بها وطنياً ودولياً، وما يميز هذا النموذج هو مرونته وقدرته على تلبية احتياجات سوق العمل بشكلٍ مباشر، إذ يتيح للشباب ممن لم تتح لهم فرصة التعليم الجامعي الالتحاق بمساراتٍ مهنية عملية، كما يوفّر شراكات وثيقة مع القطاع الخاص لتأمين تدريبات ميدانية وفرص تشغيل فعلية بعد التخرج. إن تبنّي هذا النموذج في سوريا سيجعل مشروع “قدرات” ليس مجرّد مركز للتدريب قصير المدى فحسب، بل مؤسسة مهنية قادرة على تخريج فنيين وتقنيين يمتلكون شهادات معتمدة وفرصاً واقعية للانخراط في قطاعات إنتاجية وخدمية أوسع من التي يخدمها حالياً.

 

كما يمكن للمشروع أن يستثمر في التحول الرقمي عبر إدماج التعليم الإلكتروني والمنصات التفاعلية، ما يتيح للشباب التدريب عن بُعد وتجاوز العوائق الجغرافية، فهذا التحول سيساعد أيضاً في ربط المتدربين بفرص العمل عبر قواعد بيانات رقمية ومنصات تشغيل محلية وإقليمية.

 

ومن جانب آخر، يمكن توسيع المشروع عبر شراكات استراتيجية مع الوزارات، والجامعات، وغرف الصناعة والتجارة، والمنظمات الدولية المانحة، لضمان التمويل والتطوير المستمر، وربط التدريب بالاحتياجات الفعلية لسوق العمل، كما أنّ إدماج برامج لدعم ريادة الأعمال وتوفير حاضنات للمشاريع الناشئة سيحوّل المشروع من منصة تدريبية إلى حاضنة ابتكار وخلق فرص عمل جديدة، بما يرسّخ مكانته أداة وطنية للتنمية المستدامة.

 

يضيف قضيماتي في هذا الجانب “يجب اتخاذ خطوات مادية ومعنوية حتى تكون هذه المراكز أكثر فاعلية، فمن الناحية المادية يجب إعادة تأهيل مراكز التدريب القديمة، وتركيز التدريبات في المناطق التي نسبة انتشار المحتاجين لهذه التدريبات أكثر من غيرها حتى تحقق فائدة أكبر”.

 

بشكل عام، يعتبر مشروع “قدرات” أداة استراتيجية لإعادة بناء المجتمع السوري عبر الشباب؛ حيث إنّ تطوير هذا المشروع وتحويله إلى نموذج أكثر شمولاً سيعني خلق فرص عمل حقيقية، وينشط السوق المحلي، ويعزّز رأس المال البشري. وعلى الصعيد الاجتماعي، فإنّ توسيع برامجه ليشمل الفئات الهشّة والمهمّشة سيعيد الثقة ويعزز السلم الأهلي ويقلّص الفجوات داخل المجتمع. لذلك، فإن الاستثمار في تطوير المشروع يعتبر ضرورة مهمة ذات انعكاسات مباشرة على مستقبل الاقتصاد والاستقرار الاجتماعي في سوريا.

شارك

مقالات ذات صلة