سياسة
تقرير دوري: 18 أيلول/ سبتمبر 2025
تُواصل سوريا حراكاً دبلوماسياً نشطاً يعكس تحولاً ملحوظاً في التعامل الدولي مع ملفها، حيث تجسّد هذا التحول في سلسلة من التطورات البارزة كالتوصل لخارطة طريق ثلاثية (سوريا-الأردن-الولايات المتحدة) لحل أزمة السويداء، ومشاركة الرئيس السوري أحمد الشرع في القمة العربية الإسلامية الطارئة بالدوحة، واستقبال وفد روسي رفيع المستوى ناقش تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني. كما أعلن الوفد الكرواتي عن استعداده لإعادة فتح سفارة بلاده في دمشق في خطوة تهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والطاقي. وشهدت العاصمة السورية زيارة قائد القيادة الوسطى الأمريكية تشارلز برادلي كوبر لبحث الترتيبات الأمنية في سوريا الأمر الذي يمثل إشارة دبلوماسية وعسكرية قوية على أن العلاقات الأمريكية السورية تدخل مرحلة أكثر تعاوناً، تركز على المصالح الأمنية المشتركة ومكافحة الإرهاب وبناء استقرار إقليمي. وهي تفتح الباب أمام مزيد من التعاون العسكري والأمني المباشر بين البلدين.
في السياق، تمثل كلمة الرئيس السوري أحمد الشرع في قمة الدوحة نموذجاً متميزاً للخطاب السياسي المكثف، حيث استطاع خلال دقيقة واحدة فقط نقل رسائل سياسية عميقة تباينت مع النمط التقليدي للخطابات العربية. وقد عبرت الكلمة بإيجاز لافت عن إدانة العدوان الإسرائيلي على غزة وسوريا، واستهداف الوساطات الدبلوماسية، مع دعوة ملحة لوحدة الأمة العربية والإسلامية مدعومة باقتباس شعري لتعزيز الرسالة ثقافياً. هذا الإيجاز المقصود بحسب رأي الكثيرين، لم يكن مجرد اختصار للكلام، بل غدا أداة تأثير إعلامي فعالة أثارت تفاعلاً واسعاً وتحليلاً سياسياً بسبب أبعادها الرمزية واختلافها عن الخطابات المطولة للزعماء العرب.
تفتح زيارة الوفد الروسي رفيع المستوى برئاسة نائبي رئيس الوزراء والدفاع الروسيين إلى دمشق فصلاً جديداً في العلاقات الثنائية، حيث تأتي الزيارة -الثانية بعد سقوط نظام الأسد- حاملة أبعاداً سياسية واقتصادية وأمنية متشابكة، تُبرز محاولة الجانبين إعادة تعريف علاقتهما في المرحلة الانتقالية الحساسة، حيث تسعى دمشق إلى تحويل موسكو من حليف سابق للنظام إلى شريك استراتيجي في مرحلة إعادة الإعمار، بينما تعمل روسيا على الحفاظ على مصالحها الجيوستراتيجية في المنطقة، لا سيما وجودها العسكري في قاعدتي طرطوس وحميميم.
من الناحية الاقتصادية، تظهر الزيارة أهمية الدعم الروسي المباشر عبر توفير إمدادات القمح وإمكانية تولي موسكو أمر طباعة العملة الجديدة، في وقت تعاني فيه سوريا من أزمات اقتصادية حادة. كما تكتسب الزيارة بعداً أمنياً ذا أهمية خاصة في ظل سعي موسكو لدور وسيط بين دمشق وتل أبيب، ورعاية مصالحات داخلية بين المكونات السورية. من جهة أخرى، أعلن الوفد الروسي عن مشاركة الرئيس السوري أحمد الشرع في القمة الروسية العربية المقررة في موسكو خلال أكتوبر/تشرين الأول المقبل، لتعكس هذه التطورات مرونة الدبلوماسية السورية الجديدة في إدارة ملف العلاقات الدولية، وتؤكد حرص دمشق على تعزيز تحالفاتها الخارجية بشكل متوازن يخدم أولوياتها الوطنية، كما تبرز الدور الروسي الفاعل في المشهد السوري وتعزيز حضور روسيا في إدارة ومواكبة التطورات الإقليمية والدولية.
تشهد سوريا سلسلة من المبادرات الأهلية التي تجسد نموذجاً فريداً للتضامن الوطني في مواجهة التحديات الاقتصادية والخدمية، حيث نجحت حملات مثل “أربعاء حمص” و”أبشري يا حوران” و”دير العز” في جمع عشرات الملايين من الدولارات لدعم قطاعات التعليم والصحة والبنى التحتية. هذه الحركة التطوعية لم تكتفِ بالجمع المالي بل تحولت بسرعة إلى مشاريع ميدانية ملموسة كحفر الآبار ودعم أسر الشهداء، مما يعكس تحولاً نحو “لامركزية عملية” تمكن المجتمعات المحلية من إدارة أولوياتها الخدمية بشكل مباشر.
تعزز هذه المبادرات قيماً مجتمعية عميقة كالتكافل والانتماء، وتشكل نموذجاً بديلاً عن حلول المؤسسات الدولية المقترنة بشروط معقدة، فيما يبقى التحدي الأبرز أمام هذه المبادرات اعتمادها على الحماس الشعبي المؤقت الذي قد لا يستمر طويلاً. بشكل عام، تمثل هذه الحملات إسهاماً حيوياً في المعالجة العاجلة للاحتياجات، لكنها تبقى مكملةً لدور الدولة لا بديلاً عنه.
على صعيد آخر، يثير قرار تقليص حصص التربية الإسلامية في المناهج الدراسية السورية لصالح مواد فنية كالرسم والموسيقى جدلاً واسعاً يعكس صراعاً أعمق حول الهوية والتوجهات المجتمعية في مرحلة ما بعد الأسد. يتمثل جوهر الاعتراض في اعتبار هذا القرار محاولة لطمس الهوية الإسلامية وإضعاف الدور التربوي للدين، حيث يرى المعترضون أن التربية الإسلامية تشكل ركيزة أساسية في بناء الشخصية والهوية الوطنية، وأن إضعافها يمثل انحرافاً عن مبادئ الثورة السورية التي انطلقت من المساجد وشعاراتها الدينية.. كما أن إلغاء احتساب علامة المادة في المجموع العام للثانوية العامة يُنظر إليه على أنه إضعاف لدورها ورسالة سلبية حول أولويات التعليم.
يمكن القول إن هذه الضجة تثير الحساسية البالغة لملف الهوية في المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا، حيث أصبح التعليم ساحة للصراع الثقافي بين تيارات مختلفة حول مستقبل الهوية السورية ومدى حضور الدين في الفضاء العام.
الحملات الأمنية ضد فلول النظام السابق:
في تطور لافت، أعلنت السلطات السورية عن إحباط نشاط خلية تابعة لحزب الله اللبناني في ريف دمشق الغربي، وذلك خلال عملية أمنية مشتركة بين قيادة الأمن الداخلي وجهاز الاستخبارات العامة. العملية التي استهدفت بلدتي سعسع وكناكر أسفرت عن مصادرة ترسانة أسلحة متنوعة شملت أنظمة إطلاق صواريخ و19 صاروخ “غراد” وصواريخ مضادة للدروع، إلى جانب أسلحة فردية وكميات كبيرة من الذخائر.
تحمل هذه العملية دلالات متعددة تتجاوز الجانب الأمني المباشر. فمن الناحية السياسية، تمثل رسالة واضحة من الحكومة السورية حول عزمها إعادة فرض سيطرتها على كامل التراب السوري، والحد من الأنشطة المسلحة غير التابعة للدولة خصوصاً الأنشطة الإيرانية وقطع الطريق أمام محاولات استغلال الأراضي السورية من قبل قوى إقليمية، وهي إشارة إلى رغبة دمشق في إعادة تعريف تحالفاتها وتوازناتها الإقليمية في مرحلة ما بعد الصراع.
كما تؤكد هذه العمليات على تطور القدرات الأمنية السورية في مجال مكافحة العمليات الإرهابية والأنشطة المسلحة غير النظامية، في مسعى لإنهاء سنوات من التوترات الأمنية وتكريس الاستقرار بعد سنوات الحرب والصراع.
واصلت إسرائيل توغلاتها البرية جنوب سوريا وتصعيد غاراتها على الأراضي السورية مستهدفة مواقع في حمص واللاذقية، رغم المفاوضات الجارية بين دمشق وتل أبيب حول ترتيبات أمنية في جنوب سوريا. يُفسر هذا النهج في إطار سياسة الضغط المزدوج التي تتبعها إسرائيل لفرض شروط أمنية أكثر ملاءمة أثناء المفاوضات، واختبار حزم الموقف السوري الجديد تحت قيادة الشرع، بينما تلتزم دمشق بسياسة “الهدوء” والرد الدبلوماسي عبر الإدانة الرسمية والدعوة للتدخل الدولي، في إطار سعيها للحفاظ على مسار المفاوضات مع ترسيخ صورة الدولة المسؤولة التي ترفض التنازل عن سيادتها.
من ناحية أخرى، تتكشف الصورة عن ضغوط دبلوماسية لتسريع المفاوضات بين سوريا وإسرائيل مع اجتماع الشيباني بمسؤولين إسرائيليين في لندن بهدف إعلان انفراجة بحلول اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2025، حيث تقدم إسرائيل مقترحاً يقسم المناطق الحدودية إلى 3 مناطق منزوعة السلاح ذات ترتيبات أمنية متفاوتة مع توسيع المنطقة العازلة وفرض حظر جوي.
من جانبه، أبرز الرئيس السوري أحمد الشرع في تصريحاته الأخيرة موقفاً تفاوضياً يجمع بين التفاؤل الحذر بشأن إمكانية التوصل لاتفاق أمني مع إسرائيل “في الأيام المقبلة”، والإصرار على شروطٍ سورية غير قابلة للتفاوض تتمثل باحترام السيادة والساحة الجوية وسلامة الأراضي السورية تحت رقابة أممية، مستندةً إلى نموذج اتفاقية فصل القوات عام 1974. بينما تنفي سوريا وجود ضغوط أمريكية مباشرة عليها وتصف دور واشنطن بالوسيط، تستخدم خطاباً يسلط الضوء على التناقض بين السياسة الأمريكية المعلنة الداعمة لسوريا موحدة وبين الممارسات الإسرائيلية التي تصفها بـ “إعلان حرب”، مع التأكيد على ضبط النفس واختيار المسار التفاوضي رغم الاستفزازات العسكرية، في إشارةٍ إلى إدراكها تعقيد المفاوضات وتوازنات القوى الإقليمية. كما أشار الشرع إلى مراجعة العلاقات مع إيران بعد سقوط نظام الأسد، معرباً عن عمق الجرح لكنه استبعد القطيعة الكاملة، في إشارة إلى إعادة تعريف التحالفات الإقليمية لدمشق ومرونتها تجاه العلاقات الخارجية.
تمثل خارطة الطريق الثلاثية (سوريا-الأردن-الولايات المتحدة) لأزمة السويداء نقلة نوعية في التعامل مع الأزمة، حيث تجمع لأول مرة بين ضمانات دولية ومشاركة إقليمية فاعلة (الأردن) ودعم أمريكي مباشر وقبول تحقيق دولي للمساهمة في حل الأزمة، وتشمل الخارطة عدة بنود من قبيل إطلاق عملية مصالحة محلية يشترك فيها جميع مكونات المجتمع في السويداء، ومحاسبة المسؤولين عن الاعتداءات على المدنيين وممتلكاتهم بالتنسيق مع آليات التحقيق الدولية، ونشر قوات أمنية محلية لحماية الطرق وتأمين حركة الأشخاص والبضائع، وتعويض المتضررين، وإعادة الخدمات الأساسية وإعادة المحتجزين والمخطوفين إلى ذويهم.
وتحمل الخارطة في ثناياها تحولات عدة قد تساهم في حل أزمة السويداء رغم رفض الأطراف المحلية في المحافظة الجنوبية لها:
– التحول في الموقف الإسرائيلي الذي يتجه نحو اتفاق أمني مع دمشق تحت الوساطة الأمريكية ما يجعل حكمت الهجري والمجلس العسكري يفقدان أهم داعم خارجي.
– الرفض المحلي والدولي لفكرة الانفصال مما يحرم المشروع الانفصالي من أي جدوى اقتصادية أو سياسية.
– المقاربة الشاملة للخارطة الجديدة التي تناولت الملف الأمني والإنساني والمجتمعي بشكل متوازن.
– الضمانات الأمريكية التي قد تشكل عنصر ضغط على إسرائيل للالتزام بمنع تدخلاتها في الشأن الداخلي للسويداء.
– البعد الجديد في التعاون غير المسبوق مع لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا. هذه الخطوة تهدف إلى عزل التيارات الانفصالية المتمثلة في الدعوات إلى إقليم درزي منفصل، وتعزيز الرواية الرسمية القائمة على وحدة الأراضي السورية وحشد موقف إقليمي ودولي لتعزيز هذه الرؤية.
ميدانياً، تشير التطورات الأمنية الأخيرة في محافظة السويداء إلى تحول استراتيجي في منهجية التعاطي مع الأزمة الأمنية بالمحافظة، حيث كشف وزير الداخلية السوري عن إعادة هيكلة شاملة تتضمن تعيين معاونين جدد من أبناء المحافظة، في خطوة تهدف إلى تعزيز الشراكة المجتمعية وبناء الثقة بين الأجهزة الأمنية والسكان المحليين. وتمثل زيارة المسؤولين للموقوفين مع ممثلي المجتمع المحلي إشارة واضحة إلى تبني منهجية تواصلية تهدف إلى معالجة جذور الأزمة. كما يكتسب تعيين سليمان عبد الباقي -أحد أبرز وجوه الحراك الثوري في المحافظة- لإدارة الملف الأمني أهمية بالغة، حيث يجسد هذا القرار توجهاً لتطمين المجتمع الدرزي بالتزامن مع جهود لتحسين الأوضاع الخدمية وإعادة النازحين، مما يؤشر لتبني استراتيجية متكاملة تجمع بين المعالجة الأمنية والاجتماعية والخدمية.