فكر

من غزة إلى الدوحة: تهوّرات إسرائيل تطعن الوساطة القطرية وتطيل معاناة السوريين والفلسطينيين

سبتمبر 12, 2025

من غزة إلى الدوحة: تهوّرات إسرائيل تطعن الوساطة القطرية وتطيل معاناة السوريين والفلسطينيين

لم يُعتبر القصف الإسرائيلي الغاشم على الدوحة مصادفةً لحادثة عابرة في سجلِ الصراع، بل كان صدمةً سياسيّة وأخلاقيّة امتدت أصداؤها من فلسطين إلى سوريا، فالعاصمة القطريّة ما كانت يوماً ساحةً لمواجهاتٍ عسكريّة، بل ارتبط اسمها بالوساطة الإنسانيّة والسياسيّة، والتي عملت دوماً على فتحِ أبوابِ التهدئة ووقف نزيف الدم في قضايا كثيرة أبرزها القضيّة الفلسطينيّة.

 

فضربُ مدينة كانت وما زالت تحتضنُ جهودَ المصالحة وتدفع الحلول التفاوضية، يطرحُ سؤالاً عميقاً حول حدود التهوّر الصهيوني واستعداده لتوسيع رقعة المواجهة حتى على حسابِ القوانين والأعرافِ الدوليّة.

 

 وبينما يتابع الفلسطينيون معركتهم المفتوحة في غزة، ويعيش السوريون معاناة النزوح والخذلان، يبدو أن استهداف الوساطة القطرية يطيلُ أمدَ جراحٍ مشتركةٍ لشعبين لم يعرِفا طعم الاستقرار، من هنا يصبح القصف أكثر من حدث عسكري: إنه رسالة خطيرة إلى كل من يحاول أن يفتح نافذة أمل وسط الركام.

 

 

الدوحة وسيطاً مستهدفاً

أصبحت قطر خلال السنوات الماضيّة وسيطاً محورياً في ملفاتٍ معقّدة، من خلال إدارة التوسط لوقف إطلاق النار في غزّة، إلى راعية للاتفاقات الخاصة بتبادل الأسرى، مروراً بتقديم المساعدات التي أبقت آلاف المدنيين على قيد الحياة.

 

هذا الدور لم يكن رفاهية سياسية، بل حاجة إقليمية اعترف بها حتى الخصوم، إذ شكّلت الدوحة قناة اتصال نادرة بين أطراف متصارعة لا تلتقي على طاولة واحدة.

 

 لذلك فإن استهدافها بذريعة اغتيال وفد حماس، لا يمكن قراءته كعملية عسكرية عابرة، بل رسالة مقصودة من إسرائيل ضد وسيط يُهدّد بفتح منافذ تفاوضية تقلّص من مساحة التفوّق الميداني.

 

 وفق محللين، فإن ضرب العاصمة القطرية يندرج في سياق تعطيل كل مبادرة قد تُفضي إلى خفض التصعيد، سواء في غزة أو في ملفات مرتبطة بالسوريين الذين يعتمدون بدورهم على قنوات الدعم والوساطة التي وفّرتها الدوحة. هنا، يصبح الوسيط هدفاً بحد ذاته، لا لأنه طرف مقاتل، بل لأنه يحمل إمكانية وقف القتال.

 

تهوّرات إسرائيل وتحدي الأعراف الدولية

استهدافُ الدوحة يمثّل تحوّلاً نوعياً في قواعد الاشتباك، إذ يتجاوز حدود الحرب التقليدية نحو ضرب العواصم المحايدة التي لم تكن يوماً جزءاً من ميدان القتال، فالقصف الإسرائيلي لم يَصِبْ موقعاً عسكرياً، بل ضرب رمزية دولة بنت لنفسها صورة الوسيط القادر على مدّ الجسور بين الأطراف، وهذا ما يجعل العملية سابقة خطيرة، لأنها توجّه رسالة إلى العالم مفادها أن إسرائيل لن تتردد في تعطيل أي دور عربي يسعى إلى التهدئة، حتى إن كان متعلّقاً بقضية إنسانية بحجم غزة أو بوساطة قطرية تحظى بقبول دولي.

 

المفارقة أن الضربة جاءت في توقيت بالغ الحساسية، حيث كانت الدوحة تُدير قنوات معقّدة للتفاوض بين إسرائيل وحركة حماس حول ترتيبات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، أي أن الرسالة لم تكن فقط عسكرية، بل سياسية أيضاً: معاقبة الطرف الذي يُسخّر وزنه الدبلوماسي لانتزاع تنازلات إنسانية من إسرائيل، سواء عبر إيصال المساعدات أو فتح بابٍ لوقف الدم.

 

 في هذه المعادلة، لم تكن حماس هي الهدف المباشر فقط، بل الدور القطري نفسه باعتباره مظلة لحلول قد تقلّص مكاسب إسرائيل الميدانية.

 

من منظور القانون الدولي، لا يوجد ما يبرر ضرب وسيط محايد، بل على العكس يُفترض أن يحظى بالحماية والدعم. لكن إسرائيل تُعيد صياغة الأعراف على طريقتها: إذا كان الوسيط يعطّل استراتيجيتها القائمة على إطالة الحرب، فهو يتحوّل إلى عدو، هذا المنطق يقوّض فكرة الوساطة كأداة استقرار، ويفتح الباب أمام فوضى إقليمية حيث يُعاقب كل طرف يحاول أن يؤدي دوراً توازنياً. وبهذا، لا يقتصر أثر الضربة على قطر فقط، بل يتعداها إلى الفلسطينيين والسوريين الذين ستتأثر ملفاتهم بغياب قنوات تفاوضٍ شرعية.

 

انعكاسات على القضية الفلسطينية

الضربة الإسرائيلية للدوحةِ لا يمكن أن تكون بمعزلٍ عمّا يحصل في غزّة وما يدور فيها من معارك ومفاوضات متعثرة، فقطر كوسيط دولي وإقليمي وحليفٍ أمريكي، لطالما حاولت أن تُبقي قنوات التواصل مفتوحة للحوار بين إسرائيل وحماس لتخفيف وطأة الحرب على الأهالي في غزّة، خصوصاً فيما يتعلق بملف الأسرى والإفراج عن المعتقلين، إلى جانب ملف المساعدات وإدخالها للأهالي في القطاعِ المحاصر مع وقفٍ تامٍ لإطلاق النار، لكن هذا الأمر بدا محفوفاً بالمخاطر والانهيار مع الضربةِ الأخيرة، على اعتبار أنّ إسرائيل أرسلت رسالة واضحة بأنها غير معنية باستمرار أي وساطة تفرض عليها تنازلاتٍ في وقتٍ تُعتبر فيه الحرب فرصةً لتحقيقِ الماكسبِ العسكريّة والسياسيّة.

 

وبالحديث عن ملف الأسرى فهو وعلى وجهِ الخصوص يحمل تداعياتٍ مباشرةٍ على حياة المدنيين في غزّة، فالإفراج المتبادل في الواقع سيكون مقدمة لتهدئة أوسع تتيحُ دخول المساعدات وخلق بيئة أقل دموية من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن الوثوق بالكيان الإسرائيلي الغادر.

 

 لكن حين تُستهدف العاصمة التي ترعى هذه المفاوضات، فإن الرسالة المفهومة هي أن تل أبيب لا تريد أن ترى أي طرف عربي قادر على فرض إيقاع مختلف غير إيقاع القوة المسلحة، وهذا لا يهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يقوّض فرص أي مبادرة دولية لاحقة قد تُبنى على جهود الوساطة القطرية.

 

ما يزيد من خطورة الموقف أن الضربة جاءت في وقت ارتفعت فيه الآمال بإنجاز اختراق ولو جزئي في ملف الأسرى، وهو ما كان سيعني تخفيفاً لمعاناة المدنيين وفتح أُفق لتسوية مرحلية، لكن بدلاً من ذلك، أُرسلت رسالة ترهيب إلى كل من يسعى لانتزاع هذا الاختراق، لتعود غزة من جديد إلى دائرة الدم المفتوحة من دون أي ضمانة لوقف إطلاق النار.

 

 في الخلاصة، فإن انعكاسات القصف على القضية الفلسطينية تتجاوز تدمير موقع أو إرباك وسيط، لتشكّل عملياً تهديداً لجوهر أي مسار تفاوضي، وترسيخاً لمعادلة أن الحرب هي الخيار الوحيد الذي تسمح به إسرائيل.

 

تداعيات على السوريين

لم يعد دور قطر محصوراً في الوساطة بين تل أبيب وحركة حماس، بل امتد خلال السنوات الأخرى لأبعاد تتعلق بمسارات إقليمية من بينها الملف السوري، فمع انطلاق الثورة السوريّة وقفت قطر بكل وضوح لجانب الشعب السوري في مطالبهِ المُحقّة “إعلامياً، وإنسانياً” لتكون أولى الدول التي قدمت دعماً للمعارضة الثوريّة واحتضنت فعالياتها خلال سنوات الحرب، ثم واصلت دعمها بعد سقوط نظام الأسد البائد في ملفات إنسانية واقتصادية وإغاثية، بما في ذلك دفع رواتب موظفين مدنيين، وتمويل مشاريع خدمية وبنى تحتية، والمساهمة في برامج التعليم والصحة والإسكان.

 

هذا المسار رسّخ صورة الدوحة كحليف للسوريين، وفتح نافذة أمل لملايين المهجّرين داخل سوريا وخارجها، لكن الاستهداف الأخير للعاصمة القطرية لا يهدد فقط موقعها كوسيط في غزة، بل ينعكس مباشرة على شبكة المبادرات المتصلة بالملف السوري، فأي خلل في قدرة الدوحة على متابعة عملها الدبلوماسي والمالي يعني اضطراباً في شحنات المساعدات، وتأخيراً في تمويل الرواتب، وتجميداً لمشروعات الطاقة والبنى التحتية التي يعوَّل عليها لتخفيف آثار الحرب.

 

المحصلة العملية واضحة، كل تراجع في الدور القطري يقابله أثر مباشر على حياة السوريين اليومية، من تعميق الفقر داخل المخيمات، إلى تعطيل الخدمات الأساسية، وصولاً إلى إضعاف فرص العودة والإعمار، وفوق ذلك فإن ضرب هذا الدور يبدد الرهان على الوساطة العربية ويزيد من احتمال انزلاق الملف السوري إلى هوامش المساومات الأمنية والدولية، بعيداً عن مصالح الناس الذين دفعوا ثمن النزاع، من هنا يصبح الوقوف العربي والسوري خصوصاً مع قطر موقفاً طبيعياً يتجاوز المجاملة السياسية، إلى إدراك بأن استقرار هذا الحليف الاستراتيجي هو شرط لاستمرار الدعم السياسي والاقتصادي والإنساني.

 

التقاطعات الإقليمية والدولية

يضع استهداف الدوحة فلسطين وسوريا في مشهد واحد من الخسارة، حيث تتقاطع المعاناة تحت ضربات إسرائيل المباشرة وتداعياتها غير المباشرة، فالفلسطينيون يفقدون وسيطاً كان يُساهم في تخفيف كلفة الحرب على غزة، بينما يخسر السوريون نافذة دعم سياسي وإنساني واقتصادي ارتبطت بقطر منذ بداية ثورتهم.

القصف الإسرائيلي للدوحة لم يكن مجرد اعتداء على عاصمة محايدة، بل جريمة ضد فكرة السلام نفسها، ففي استهداف وسيط حمل همّ الفلسطينيين ووقف إلى جانب السوريين، تكمن رسالة خطيرة مفادها أن أي محاولة لوساطة نزيهة ستُعاقَب بالقوة، وهنا تبرز نبالة القضية الفلسطينية كاختبار للعالم: هل يُترك السلام رهينة لتهورات إسرائيل، أم يُصان كحقٍ إنساني جماعي؟

 

شارك

مقالات ذات صلة