آراء

جدليّة الانتقام والقدرة.. الحالة السوريّة أنموذجًا!

أغسطس 31, 2025

جدليّة الانتقام والقدرة.. الحالة السوريّة أنموذجًا!

 حين تنهار الأنظمة السياسيّة غير الراشدة، وتُطوى صفحة مرحلة دامية، يبرز حينها هذا السؤال الكبير: كيف سنتعامل مع رموز النظام السابق؟ هل يكون الانتقام سيّد الموقف، أم أنّ الحكمة والعقلانيّة هما من يوجهان المرحلة الجديدة؟ هذه الجدليّة ليست جديدة في التاريخ، بل تتكرّر مع كلِّ دولةٍ تمرُّ بمرحلةٍ انتقالية وظروفٍ استثنائيّة بعد صراعٍ طويل مع أهل الشرور، غير أنّ الحالة السوريّة تضعنا أمام مشهد بالغ التعقيد، حيث تتداخل الرموز التي كانت تناصر النظام السابق، وتتعدّد درجات المسؤوليّة، ويصعب الفصل بين من كان أداة مسيّرة، ومن كان صانعًا للقرار وركيزة في ترسيخ الاستبداد تحت حكومة الأسد.

 

فإنّ النظر إلى رموز النظام يستوجب أولاً التفريق بين مستويين: الرموز من الأركان ككبار الموظفين والوزراء وأصحاب القرار الذين امتلكوا أدوات السلطة ونفّذوا بها سياسات النظام السابق، وبين الرموز الأتباع من الكتبة والإعلاميين ونشطاء المنصات الاجتماعيّة الذين صنعوا صورةً مضلّلة ومخادعة وتطبيليّه وكرّسوا خطابًا يخدم المستبد، لذلك فالخلط بين الفئتين يُوقِعُ المجتمع السوريّ  في أخطاءٍ استراتيجيّة، لأنّ التعامل مع الجميع بذات المعيار يفقد الدولة القدرة على الاستفادة من الخبرات النادرة ويجعلها أسيرة ردود الفعل.

بالنسبة للفئة الثانية –الأتباع من الإعلاميين والنشطاء– فإنّ الخطر الحقيقيّ ليس في حجمهم الواقعيّ بل في التضخيم المبالغ فيه لأدوارهم،  فهؤلاء كانوا في الغالب ألعوبةً تمشي حيث غلبت الكفة، يبيعون أقلامهم ومنصاتهم للمنتصر، وهنا ينبغي ألّا تُعطَى لهم مكانة أكبر من حجمهم الطبيعيّ، ويمكن منحهم فرصة محدودة تحت رقابة الزمن ليختبر المجتمع صدق تحوُّلهم، دون أن يُفتح لهم المجال لتصدر المشهد أو صياغة الوعي العام مجدّدًا.


أما الفئة الأولى –الأركان من رموز النظام وكبار موظفيه فالأمر أدقّ وأصعب، فليس كلّ من خدم في النظام السابق سواء، فهناك من امتلك معرفة تخصّصيّة نادرة أو خبرة مؤسّسيّة يحتاجها الوطن في ادارته الجديدة ومرحلته الجديدة، وهؤلاء يمكن الاستفادة منهم في إطار مقيّد يخدم الصالح العام. ولكن في المقابل، هناك من تلطّخت أيديهم بجرائمٍ إنسانيّة أو من كانوا أعمدة في إدامة الاستبداد، فهؤلاء لا مكان لهم في المستقبل، بل يجب أن يُحالوا إلى العدالة لتتحقّق الموازنة بين الحقِّ والقدرة.


إنّ فلسفة الانتقام بعد التمكن من العدوِّ ليست في تصفية الجميع بلا تمييز، بل في تحويل القدرة إلى أداة عدلٍ وحكمة، فالمجتمع الذي يميّز بين الأركان والأتباع، وبين من أجرم ومن انساق، وبين من يمتلك علماً نادرًا ومن لم يكن سوى جزء من آلة التضليل، هو مجتمع يسير نحو بناء دولةٍ رشيدة قادرة على تجاوز الماضي دون أن تقع في أسر أحقادٍ لا تنتهي.

شارك

مقالات ذات صلة