تأملات
قبل النوم، أشعر بنُبل شخصٍ يعمل في الظلّ لا نعلم عنه شيئًا، كاتب يسهر على مقاله، طالب مجتهد يدرس نصوصه، فنان يكمل رسم لوحته، روائيّ ينسج قصة، قارئ واقع في بئر الحكاية، سيّدة تنهى أعمال البيت بعد أن نام الأولاد، أب يعمل بورديّة الليل… نُبل الحياة هو العمل. سكون الليل يطوّقهم جميعًا، ويثير الشجن.
لا أتحمَّل الضوء الساطع في الليل، أُحِبُّ الإضاءة الخافتة الصفراء. هل هو حنين إلى عصر أنوار الشمعة؟ كأنَّ شعوري بالليل في جمال مسحة الظلام، والسكينة التي يبثها اللون الأصفر. أُحِبُّ اللوحات التي فيها لونٌ أصفر يَشِعُّ على وجوه الأبطال، إحدى جماليّات الليل اعتباره مرفأ لبحر النهار المتعب.
في انتظار النوم، خطر لي أنَّ حياتنا مصمَّمة على عدم الكمال، وأنَّ غريزتنا تهرب إلى شيءٍ ما، حتى لو لم تدركه. في الأفق شيءٌ يجذب الإنسان إلى كلِّ هذا التجوال والبحث والعمل، رغبات بشريّة، مثل حُبّ الذِّكْر والشهرة، وشهوة الجاه والمكانة والمال، وهذا يؤدي إلى الركض هربًا، خصوصًا من الملل، العدوّ الأكبر.
الليل هو محطة الوصول إلى آخر نقطة من سعي النهار، إنّه جهة الوصول إلى الصمت في الظلام، إلى الحديث مع النفس. كم هو شجيٌّ بكل أحاديثه، وانثيال الذاكرة بوجوه المحبين. في الليل أكتب سيرتي الذاتية بلا قلم، أكتبها بالتفكير وافتقاد الأوجه الغائبة، وجه أبي، ووجه صديقي وراء الزنزانة، ووجه كلّ مَن أُحِبّ.
الليل موطن السكون وحديث الروح، فيه تنشط الأحلام والأمنيّات، وتُكتب فيه نصوص الروايات وقصائد الشعراء والمقالات. قالها العقاد، في الليل نكبر يا صاح، وفي الليل نُحاكِم تصرفات اليوم، ونشعر بالأسى ومحاسبة الذات، والتفكير في الغد، في الليل نرتّب بيوت أرواحنا لنستقبل بها نهارًا جديدًا.
في الليل نغتسل من ثرثرة النهار، نهرب من كلِّ قلقٍ يصيب أرواحنا النهاريّة، نسعى لسكون متخيل. وفي الليل أستعرض أسئلة رُوحي، ونتفاوض على تأجيل الملفات المعلَّقة لحلِّها تحت ضوء الشمس. في الليل نُعلِن أنّنا هائمون ولو بشطر بيتٍ أو اقتباس، أو أملٍ ضئيل في العودة إلى الوطن، فهل الليل صديق؟ يعجبني قول مريد البرغوثي، في “رأيت رام الله”: “السعيد: هو السعيد ليلًا… والشقيّ هو الشقيّ ليلًا… أما النهار، فيشغل أهله!”.
لو كتب أحدُهم نصًّا وسمَّاه “أدب الأرق” وجمَع فيه شكوى الأدباء من النوم وحديثهم عن الليل والجفون، لعلَّ هدوء الليل يجلب الرقة والتفكُّر في دورة الزمن. لذلك يضحي الشاعر نديم النجوم بالنوم ليكتب قصيدته التي هي بديل عن الحلم، ألم يَقُل بورخيس: “وهبني الله الليل والكتب”؟
ماذا يفعل أبطال الروايات في الليل؟ هل يهمسون بالحوارات ويتبادلون الأسرار؟ في أثناء عملي في المكتبة سمعت عبارة من الكاتب والناقد د. عبد الله إبراهيم صاحب موسوعة السرد، يقول: “كلُّ هذه الكتب التي ألَّفتُها كانت في الليل”!
إحدى أجمل افتتاحيات الروايات، مُقدِّمة رواية “الحرافيش” لنجيب محفوظ، تبدأ في الليل: “امتلأ عاشور بأنفاس الليل. انسابت إلى قلبه نظرات النجوم المتألقة. هفت رُوحه إلى سماء الصيف الصافية. قال: {ما أجدرها ليلة بالعبادة}، كي يجثو فوق الأعتاب يناجى رغبات نفسه الكظيمة، وينادى الأحبَّة وراء سياج المجهول”.
مِن المؤلِّفين الذين يكتبون في الليل يحيى حقي، لأنَّ شعوره بالليل يُعتبَر من المحرّكات القويَّة لديه للكتابة، ينتهي من النصِّ في الصباح، يُطِلّ وعلى وجهه قسمات التعب، لا يفرِّق بين نصٍّ إبداعي، أو مقال، أو قصة قصيرة، أو خاطرة. كم من الساعات الطوال ينفقها وهو جالس على مكتبه، وهو في قمة تركيزه ويحتشد للعمل الأدبي بكلِّ ما أوتي من قوة وانتباه، حتى يظهر النصُّ الأخير بعد ألم الوضع والمخاض، تحوطه على المكتب المراجع اللغويَّة والقواميس.
يملك حقِّي حساسية لُغويّة، ففي ذات يوم نزل حقِّي ليلًا على مدينة الإسكندرية وذهب إلى أحد المطاعم الذي اعتاد الذهاب إليه، وكان اسمه «مطعم السمر»، فإذا به يجد حرف الراء قد سقط من كلمة “السمر”، وتقاعس صاحب المطعم في وضع الحرف مكانه، فأصبح الاسم يُقرأ “مطعم السم”. لا إراديًّا وجد يحيى حقِّي نفسه يهجر هذا المطعم ويبحث عن مطعمٍ آخر.
لقد كنت أتعلَّم من نصيحة نيتشه في قوله: “تحويل ليالي الأرق الطويلة إلى وسيلة للمعرفة”. ومنذ أيام كنت أتصفح كتاب ماهر شفيق فريد “قاعة من المرايا” وهو ينقل قول الدكتور صموئيل جونسون: “إنَّ وظيفة الأدب هي أن تجعل الحياة ممتعة، أو على الأقل محتملة”، ثم علَّق بقوله: “وأَمَلَي أن تُعينك هذه الصفحات -كما أعانتني- على أن تجد الحياة ممتعة حين ترفق (وهذا قليل)، ومحتملة حين تقسو (وهو الأغلب)”.
يظهر الحديث عن أرق الملوك في مذكرات “أمير مبعد” لهشام العلوي، إذ يحكي عن الحسن الثاني والمعاناة مع الأرق المزمن، خصوصًا بعد محاولتَي الانقلاب في 1971 و1972، فطال ليله حتى ساعات الفجر الأولى. كان يقضي ساعات الليل متصفّحًا الملفات القديمة والجديدة، منقِّبًا فيها. وفي أيّ حالٍ كان من المعروف عنه هوسه بالتفاصيل. بسبب ساعات الأرق هذه كان الملك يستيقظ في نحو الحادية عشرة صباحًا، وكانت له بعد وجبة الغداء قيلولة لا يخلد إليها إلّا بعد الاستماع إلى شيء مما لدى حلايقية/حكواتي القصر، وهكذا رعى الحسن الثاني فريقًا من الحلايقيَّة والحكواتيَّة ذوي اللسان السليط، فضلًا عن جمهرة من الشعراء وعلماء الدين. هناك رواية مؤنس الملك التي تحكي عن شخصيّة الحكواتي في القصر الملكي.
الأرق الثاني طالعتُه في مذكرات نوبار باشا عن إبراهيم باشا ابن محمد علي. لم يكُن إبراهيم ينام الليل، وكان يعاني من النوم المتقطِّع، وكان عادة ما يُرسِل في طلب نوبار ليسهر معه ويتجاذب معه أطراف الحديث كي ينسى همومه قليلًا. سأل نوبار ذات يوم العبد عمر الذي يسهر معهما: “منذ متى يعاني إبراهيم باشا من هذه المشكلة؟”، فقال له: “إنَّ الرجال الذين قتلهم في الشام يجيئون لإيقاظه من نومه ليلًا”. يصف نوبار عبد إبراهيم باشا بأنَّه شخصٌ بدائي لأنَّه لا يفهم فكرة الندم والشعور بالذنب، وحوَّلها إلى معنى ملموس يوقظ فيه القتلى إبراهيم من نومه.
طفولة في فلسطين
لفت نظري في حديث إحسان عبّاس عن نفسه ذكرياته في فلسطين قبل حلول النكبة على أهلها. يحكي عن والده أنَّه كان فلاحًا بسيطًا لا يملك من الكتب إلا كتابين، القرآن الكريم، وسيرة بني هلال، فإحسان لم يَرَ في بيته غيرهما.
من خلال حديثه عن نفسه يتبيَّن لنا الطفولة المؤلمة والفقيرة التي عاشها الناقد والكاتب والمحقِّق والمترجم إحسان عبّاس، فهي رحلة عصاميَّة تحوي دروس الكفاح من أجل التعلُّم. ابن فلاح من قرية عين غزال في فلسطين. خُذ هذه القصة مثلًا عن مذاكرة إحسان عباس على ضوء الشمس حينما عاش عند أسرة في مدينة حيفا تقع فيها مدرسته وقد غادر قريته: “كانت هناك أيضًا لي مشكلة أخرى مع هذا البيت الذي عشت فيه، فبيتهما يقع في الحي الشرقي من المدينة، وهذا الحي لا توجد فيه إنارة كهربائيّة، فالإنارة الكهربائيّة كانت مقصورة على الحي الغربي فيها، فكنت أؤدي واجباتي المدرسيّة على ضوء القنديل، وهذا كان من أسباب تذمّرهما منّي. فكانت زوجة الشيخ تنبّهني إلى هذا الاستهلاك غير المحبّب للجاز، وكانت تقول: إمَّا أن تشتري جازًا وإمَّا أن تدفع ثمنه. فصرت أصحو من النوم مبكرًا، وأذهب إلى المدرسة، وأؤدي ما عليّ من واجباتٍ في شرفة المدرسة قبل أن يحين موعد دخول المدرس. كنت أصحو أحيانًا في الساعة الخامسة، وأحيانًا أخرى في الساعة السادسة. وبهذا الشكل تلافيت المشكلة التي كانت تثور بسبب استخدام القنديل في الساعات الأولى من الليل”. رحم الله إحسان عبّاس.