Search

Close this search box.

فكر

الحياة التي نعرف: كيف تستعيد الأمة عافيتها (2-5)

يونيو 18, 2024

الحياة التي نعرف: كيف تستعيد الأمة عافيتها (2-5)

أتذكر جيداً تلك الحكاية التي كان يرويها أحد الناجين من سجن (تدمر) عن الإمكانيات الخارقة التي تولدت لديه ولدى رفاقه بالتفريق بين الصرخة الناتجة من كل صنف من صنوف التعذيب الوحشي من أجل الاستنطاق واستخراج الافادات عنوة أو للتخويف والهدم المعنوي، فبدأت أقلب صفحات التاريخ أبحث عن نزلاء ذلك السجن فوجدت العشرات من المفكرين وذوي الوجاهة من العلماء والحكماء، بل كان من بينهم عباقرة في مجالاتهم لم تستطع الدولة أن تقبلهم وتقبل ما لديهم من آمال وأفكار وتطلعات فزجت ما لديهم من أفكار ونظريات في بقعة جغرافية مليئة بالظلام والرطوبة والرعب المتكرر.

 

إن من يرجع بالتاريخ إلى قرون أمتنا الإسلامية سيجد ذلك المناخ الصحي في تناطح الأفكار مع بعضها البعض، بل وسيجد أن المؤسسات المعنية بالإفتاء أو القضاء أو الاحتساب كان لها الرأي المخالف لرأي القصور وساكنيهافي أحيان كثيرة، فكمية المناظرات والسجالات الفكرية والفلسفية والجدلية التي تزخر بها كتب التراث أكبر دليل على أن الأمة كانت تعيش مستوى مرتفع من النضج والوعي، وانعكس ذلك على احتضان أصحاب الرأي والعلم والحكمة من قبل أطياف المجتمع في أغلب الأحيان، ولا شك أن الاستثناءات موجودة على مر التاريخ في التضييق أو الاقصاء أو التنكيل بالمخالفين وأصحاب التوجهات المعاكسة ولكن ذلك لا ينفي الصفة الغالبة والطاغية على الأمة في تلك الأزمان.

 

إن مما يراود المراقب لحال الأمة وهي تلفظ عناصر قوتها ومناعتها الفكرية والثقافية نحو أمم أخرى من خوف وتوجس من المستقبل المحتم بالضياع للمجهودات الرامية لانتقال التشريع والمقاصد من النظريات والتطبيقات عبر الأجيال، فحين تفرغ الساحات والميادين الثقافية ومراكز تكوين الوعي والحفاظ عليه من أرباب الفكر وذوي العقول من المبدعين والمنظرين لا شك أن من سيحل محلهم هم السفهاء والمتملقين وذوي المصالح الفردية وأهل الطمع وحظوظ النفس من علماء السلاطين بشتى المجالات، وحينها لن تقوم للأمة راية ولن يعرف لها هوية بين الأمم.

 

ولعل من أهم مؤشرات استعادة الأمة لحياتها هي مدى قدرتها على تحقيق الاكتفاء الذاتي، وهنا لا يقتصر الأمر على السلاح والدواء والغذاء، بل يتعدى ذلك إلى مدى أن يكون للأمة اكتفاء من العلماء والمفكرين والمنظرين الذي يساهموا في ربط الماضي بالحاضر والمستقبل من ناحية، ويعملوا على أن يكون لذلك الاكتفاء استدامة بالمواردالبشرية والمادية من ناحية أخرى، فاحتضان الأمة للعقول ليس من قبيل الترف والتفاخر بل هو من أوجب الواجبات حتى تصل إلى مبتغاها في التقدم والتطور والتمكين، ولا غرابة حين نرى أن المستعمر أو الباغي يعمل وبشكل جاد على أن يكون لديه بنك للأهداف الثمينة من العلماء وذوي الرأي والتأثير حتى يصفيهم إما عن طريق الاغتيال أو السجن والتعذيب، فالعدو يدرك أنه كلما قلت العقول في الامة كلما تأخر نهوضها من جديد.

 

إن من ينظر إلى ميزانيات الدول التي يجب أن تكون الأمة مشكلة منها لن يجد صعوبة في فهم أن البيئة التي يجب أن تكون حاضنة للعلم والفكر بعيدة كل البعد عن الواقع الذي نعيشه، فمراكز البحث وتكوين العلماء ودعم المبدعين وبناء الصروح الأكاديمية نصيبها الفتات من فتات الميزانيات، والبنود الأخرى التي تتناول الجوانب الأمنية وبناء السجون وتعزيز كل ما يبعد الإنسان عن اعمال عقله تستحوذ على نصيب الأسد بعد السرقات والهبات والنفقات التي لا ترتقي بالأمة إلا بمؤشرات التخلف والفساد، فإن أرادت الأمة أن يكون لها شأن بين الأمم ينبغي عليها أن تعيد للعلم وأهله المكانة الصحيحة، فالتاريخ خير معلم لنا بأن العلم يورث القوة، فكل قادتنا الفاتحين كانت المؤسسات العلمية والتأديبية في القصور هي الحاضنة الأولى لهمبالتكوين لشخصياتهم القيادية ولقدراتهم العقلية لهم، ثم نمت معهم قيم احترام العلماء والمفكرين والقدرة على استيعابهم في أروقة الحكم ومجالس اتخاذ القرار.

 

إن الاحتضان قرين الصبر، وأعني بذلك أن العالم والمفكر لا يمكن احتواء ما لديه من طموح إلا بالصبر عليه، فالأمة الصبورة على نتاجهم العلمي الذي قد يوبخها تارة ويقومها تارةً أخرى لا شك أنها ستقطف ثمار ذلك الصبر، وهنا تجدر الإشارة أن الصبر الحكيم الذي يؤطر العمل مع تلك العقول بخطة استراتيجية مدروسة ومؤسسات ذات هيكلية واضحة وحينها لا شك أن انعكاسات ما تم تأطيره ستكون إيجابية وإن طال الزمان، فالعلم تاريخ متراكم من التجارب والبحث والتنظير والتطبيق، ويجب أن تحترم الأمة تلك السلسلة التي امتدت لآلاف من السنوات أن أرادت العيش بكرامة وازدهار، وأما إن كان قراراها غير ذلك فلن نجد صعوبة أن نرى الشاهد قد وضع على قبرها في اكتظاظ سجونها بالعلماء والمفكرين والمصلحين.

   
شارك