مجتمع
“لا أنسى كيف كانت الأم التي فقدت اثنين من أبنائها تهدِّئ زوجها قائلة الله وهب والله أخذ”، مشهد مفجع من بين مئات المشاهد المؤلمة التي لا تغيب عن ذهن تمام أبو الخير المسعف الميداني وأحد الشهود على مجزرة داريا الكبرى التي نفذتها قوات النظام البائد ومليشياته على مدار 6 أيام من 20 وحتى 26 آب/ أغسطس 2012.
في تلك الليالي، تنفست داريا آخر أنفاسها على إيقاع الرعب حين اجتمعت القذائف والإعدامات الميدانية لتضمها إلى إحدى أكبر المجازر في تاريخ الثورة السورية، حيث ارتجّت الأزقة تحت وطأة الصراخ، والبيوت تهاوت لا بفعل القصف وحده، بل بفقد من بداخلها عبر الذبح بالسكاكين أو القتل بالرصاص.
وفق شهادات الناجيين والناجيات الذين يستذكرون ليالي المجزرة، فإن أرواح من تبقى كانت تبحث حينها عن ظل نجاة من الموت عبر الاختباء بالأقبية والمنازل، إلا أن البعض قد تمنى الموت واللحاق بعائلته التي ذُبحت بدم بارد دون رحمة، فيما الدماء سالت كأنها تروي قصة مدينة ذُبحت وهي تنظر في عيون قاتلها.
“مشاهد لا تنسى”
13 عامًا مضت على مجزرة داريا، وما زالت تفاصيلها عالقة في أذهان الأهالي، بينما ما يزال الجناة بلا محاسبة رغم فظاعة الانتهاكات في المجزرة التي راح ضحيتها أكثر من 700 شهيد وفق الإحصائيات حينها.
وفي محاولة لالتقاط البعض من وجع المجزرة الكبرى تحدثنا إلى المسعف الميداني تمام أبو الخير، الذي عاش تفاصيلها لحظة بلحظة، ورافق مئات الجرحى نحو محطاتهم الأخيرة، يروي تمام لمنصة “سطور” بصوتٍ لا يخلو من انكسار أن المجزرة كانت من أكبر عمليات الإعدام الميداني التي نفذتها قوات النظام ومليشياته خلال الثورة، حيث وصل عدد الشهداء إلى أكثر من 1100 شخص بعد الإحصاء الذي جرى في المدينة عقب تحرير سوريا في 8 من كانون الأول/ ديسمبر 2024، من بينهم 522 شهيداً موثقين بالاسم، ومئات من المجهولين والمفقودين.
واستحضر تمام خلال حديثه لـ”سطور” أكثر المواقف التي حفرت في ذاكرته، حين وقف وسط المستشفى الميداني عاجزاً عن إحصاء عدد الجرحى، حيث قال: “وصل العدد لأكثر من ألفي جريح، لم أعد أستطيع التمييز بين الأسماء والأرقام وكانت الحالات تفوق أي قدرة على الاستيعاب والإنقاذ”.
أما عن المشاهد التي ظلّت تلاحقه حتى اليوم فكان مشهد طبيب يدعى “أمجد” حين جاءت والدته مصابة مع إخوته، ففحصها سريعاً واطمأن إلى أن إصابتها ليست حرجة، ثم قال لها بلطف: “أنا برجع المسا”، وغادر على الفور إلى المستشفى الميداني الآخر حيث كانت الحالات الأشد خطراً، ليتساءل وقتها تمام، “كم من الإنسانية يمكن لإنسان أن يحملها ليترك أمه المصابة ويذهب لإنقاذ غرباء؟”.
“الله وهب والله أخد”: حين كانت الأمهات يواسين من حولهنّ
داريا لم تكن مجرد نقطة على خارطة الألم، بل كانت قلبًا نابضًا بالمقاومة، تختزن في شوارعها أسماء لم تعد تُنادى، وأصواتاً أُسكتت دون وداع، أم تحتضن طفلها وقد أسكته الرصاص، وأبٌ يفتش عن ملامح أسرته بين الأنقاض.
أمهات الشهداء في داريا تمسكن بخيط المعجزة، بينما يحتضنّ جراح الأبناء ويهمسن بصوت يليق بالسماء: “الله وهب والله أخد”، إذ لم يكن الحزن وحده هو الضيف، بل كانت الكرامة حاضرة، والمواقف تُولد في كل زاوية، كأن الإنسانية تقاوم لتبقى، وفق المسعف الميداني.
وعن الموقف ذاته، روى تمام أبو الخير عن أم حملت ابنها الشهيد بين ذراعيها، تمسح على جبينه وتردّد: “الله وهب، والله أخذ”، كما كانت تهدّئ زوجها المفجوع، وتواسي طاقم الإسعاف قائلة: “ليش عم تبكوا؟ أولادي شهداء رب العالمين عطانا واستردّ الأمانة”.
الخوف الذي عاشه المسعف خلال أيام المجزرة، لم يختبر مثله حتى خلال عام كامل من الحصار والبراميل المتفجرة، فإن “السكين كان يخوّف أكثر من الطيران”، مشيراً إلى وجود أطفال قتلوا بالسكين، وبعضهم لا يتجاوز عمره السنة، أعدموا على يد ضباط النظام بدمٍ بارد.
ومن أكثر ما لا يُنسى، مشهد مجزرة القبو، حيث قُتلت عائلة كاملة مؤلفة من 36 شخصاً، حيث روى تمام أبو الخير نقلاً عن أحد الناجين، أن ضابطاً أمر جندياً بقتل طفلين كانا يبكيان في الزاوية، وعندما تردد الجندي، قال له الضابط باستهزاء: “لك رصاصتين كتار عليهم”، فرفعهم من أرجلهم وضرب رؤوسهم بدرج القبو حتى شُقّت، كما وصف.
ختم الشاب حديثه بأنه يستطيع أن يتحدث كثيراً عن الإجرام لكن لا أحد يذكر كم كانت المشاعر الإنسانية وسط المجزرة كثيرة، ومن الصحيح أنها قد تكون لحظات قصيرة لكنها بقيت محفورة في قلبه أكثر من أي شيء آخر.
ماذا حدث؟
سعت فصائل من “الجيش السوري الحر” في آب/ أغسطس 2012 إلى صدّ عملية اقتحام قوات النظام البائد مدينة داريا، واندلعت اشتباكات عنيفة بين الطرفين، ما دفع قوات النظام إلى انتهاج سياسة “الأرض المحروقة”، إذ لجأت على الفور إلى استخدام أشدّ أنواع القصف، من خلال الصواريخ التي أُطلقت من الطائرات المروحية، إضافة إلى نيران الدبابات وقذائف الهاون.
هذا القصف العنيف الذي استمر لأيام أسفر عن سقوط أعداد كبيرة من المدنيين بين قتيل وجريح، الأمر الذي أدى إلى انسحاب “الجيش الحر” بشكل كامل من المدينة، وعقب ذلك، بدأت حملات الانتقام والقتل العشوائي والإعدامات الميدانية الجماعية بالرصاص وذبحاً بالسكاكين بحقّ سكان داريا، وذلك في يومَي 25 و26 من شهر آب/ أغسطس.
وقد سُجّلت في هذه الفترة جرائم إعدام طالت عائلات بأكملها، وكان من أبشع تلك المجازر ما وقع داخل جامع “أبو سليمان الداراني” وفي محيطه، حيث لجأ عشرات المدنيين إلى منزل قريب اتخذوه ملجأً بعد فرارهم من منازلهم، وهناك تحديداً وثّق النشطاء قرابة 156 شهيداً، بينهم 19 امرأة و3 أطفال.
وفي اليوم التالي، أقدمت قوات المخابرات على إعدام رئيس مخفر شرطة داريا وعدد من عناصره، بتهمة التعاون مع الأهالي، ثم انسحبت إلى محيط المدينة واتخذت مواقع تمركز على أطرافها.
داريا التي نزفت أرواح أهلها بين الأقبية والشوارع وساحات المساجد، ما زالت شاهداً على جرح لم يندمل، وحتى اليوم يبقى سؤال العدالة معلّقاً، بانتظار أن يُنصف الدم الذي احتل المدينة بالكامل.