Search

Close this search box.

مجتمع

وعلى غفلةٍ من الحرب.. أتى العيد!

يونيو 16, 2024

وعلى غفلةٍ من الحرب.. أتى العيد!

لم يكن يحبُّ ارتداء اللون الأبيض البتّة، لكنني كنتُ دائمة الإلحاح عليه أنني أتمنى أن أراه مرتديه. وافق على مضض، ونزل أخيراً عند رغبتي وسمح لي بشراء قميصٍ أبيض “لليوم الأول من العيد”! كان من ماركة شهيرة، معروفة بغلاء ثمنها، لكنّي _لأجله_لا أُعير السعر اهتماماً، فرجلٌ يُفني حياته مناصفةً بين ورش التصنيع والبيت، يستحق أن يتأنّق ويتألق في العيدين، وهي أيام إجازاته الوحيدة طيلة العام.

 

كعك الفستق الحلبي والمعمول بالتمر، مكسرات من أنواع شتى، حلويات أبو السعود الأشهر في غزة، زينة العيد، وملابسنا جميعاً، كل الأمور على ما يرام، أو كما تهيأ لي! بقي أن يهلّ العيد غداً ليرى كيف أنّا تهيأنا لاستقباله، كمّا أدينا حق رمضان من قبل.

 

أتى العيد على هيئةٍ قلبت ترتيباتي، وبسيناريو خارج حسابات العقل والمادة، التزمَ أسامة بوعده_كعادته_ وارتدى الأبيض كفناً، لُفّ به جسده الطاهر، ودخل عليّ كعريس يحمله رفاقه على أكتافهم هو ووالده اللذين ارتقيا مع ثلة من رفاقهما ثاني أيام معركة سيف القدس!

ها هو الموت يبتزّني مرة أخرى، في مشهد تكرر بحذافيره قبل ستة أعوامٍ حين ودّعت أخي شهيداً أول أيام العيد أيضاً في العصف المأكول.

 

كيف يمكن لليلة العيد أن تقترن بخبر ارتقائهم، وصباح العيد بوداعهم، ويوم العيد بدفنهم، وأيام العيد باستقبال المعزين بهم! كيف يمكن للزمان أن يستدير عليّ، ويصيّر العيد مأتماً مرتبطاً بفقدي ومأساتي!

 

بعد مرور شهرين على ارتقائه جاء عيد الأضحى، أولى أعيادي وأطفالي الثلاثة بدونه، بكيتُ في ذلك اليوم أكثر من بكائي يوم وداعه!كانت المساجد المجاورة تصدح بالتكبيرات وكنت أحاول الهرب منها دون جدوى، أغلقُ أذني، لا أريد سماعها، فكل تكبيرة تجرّ اسمه، وكل تحميدة تأتي بصورته، وكل اقتراب من العيد خطوة نحو الموت!

 

ومن فرط إنكاري كويت ملابسه التي كنت قد اشتريتها له سابقاً، وعلقتها وصفقتها مع حذائه وجواربه وعطره الذي لم يجرّبه بعد! مقنعةً نفسي أنني في مرحلة مؤقتةٍ، أو حلمٍ سينتهي بعودته حتماً، فما العيد إلا صوته وضحكته وحضوره ووجهه!

 

مرّ العيد، وانقضت العدة، دخل ولدي عامه الأول في المدرسة بدونه، وتخرج منها ومن فصول بعدها بدونه، جاءت ذكرى أيام ميلادنا بدونه، ورمضان بدونه، وحروب أخرى بدونه! لقد خارت قواي جلّها، بدأ الفراغ يتسّع، وبدأت حاجة أبنائه إليه تزداد، وأنا لا أقوى! لا طاقة لي بترميم شيء وأنا المفتتة من الداخل، لقد أعياني الغياب، وهزتني كلمة ابنتي “صار نفسي أشوفك بتضحكي؟!” وصفعني ابني بقوله لصاحبه :”بابا مش موجود، وماما دايماً مريضة!”

 

وتلقيت شكاوى من المدرسة بتراجع مستواهم الدراسي، وميولهم إلى الوحدة والعزلة. خرجت من قوقعتي ولم أجد المدينة قد دفنت نفسها معه، كانت الحياة في الخارج مستمرة، والنساء يحبلن ويلدن، وكل شئ على ما يرام إلاّ عندي! كنت أقف على قبره أناديه، أين أنت ؟ لمن تركتنا ولماذا!لم أكن أشعر بتحسن بعد هذا العتب فهو لا يجيب وأنا لم أعتد على ذلك ؟

 

أما بعد..

 

سُدّت كل الطرق، فوجهّت حزني إلى الركن القويّ، وقادني الفقد إلى باب الله، وقرّبني البلاء منه، فبُحتُ له بما في قلبي فحصّنه بسكينته وأمسكه عن السقوط في كل مرّة، وأحسست دمعي يقع في يد الله. وآمنت بأن عجلة الحياة تدور، وأن إدمان الحزن يذهب العقل ويضيع الأجر، فهيئ الله لي من أمري رشداً، وألهمني النهوض، وأيقظني من سكرة الألم.

 

وكلما فزعت من فكرة الفقد، آنستني الطريقة التي استشهد فيها حيث رحل بضجيج مدوّ وباصطفاء فريد وقد كان قائماً صائماً فاختار الله له يوم الجائزة لينتقل لجواره. فصار كندبة مقدسة غائرة في الجسد، نستعرضها كما يستعرض الصناديد جروحهم وقد انتصروا عليها.

 

في صباح ذلك اليوم قررت أن أتمرد على حزني وما يدفعني إليه، رتبت ملابس أسامة في حقيبة كبيرة كي أحميها لأبنائه، بعدما كنت يومياً أطرحها أرضاً، أتفقدها قطعة قطعة أشتمها أبحث عن أقصوصة ورق منسية في جيبه، أو منديل فيه أثر منه! انضممت للعمل الخيري، حصلت على رخصة القيادة، والتحقت في برنامج تدريبيّ للتعليق الصوتي، وبدأت مراجعة القرآن الكريم، وانهمكت في ممارسة الرياضة، وقضيت عدداً من الساعات في القراءة، واقتربت من أبنائي أكثر! ما زال فيهم إقبال على الحياة، لماذا كنت أبدده؟! قررت الاجتماع معهم على طاولة واحدة في وجبات الطعام، بعد أن هجرتها عاماً كاملاً لأنني لم أطق رؤية كرسيه فارغاً.

 

ثم اغتنمت المواسم وأطلقت مبادرات إفطار الصائمين وكسوة العيد وملابس المدرسة لأجله، وأقمت على روحه الولائم، وأهديت ثواب ختماتي له . لقد دفعت أولاده لما يحب، واصطحبتهم لزيارته مع كل جزءٍ من القران يحفظونه، ومع كل شهادة تفوق يحصلونه. ثم صيّرت المناسبات محافل ففتحت بيته على مصراعيه لمحبيه، ونصبت صورته في صدر البيت يزيّنها أبناؤه بأضواء الزينة لتنير، واستبدلت التمر الذي كان سابقاً بصحون الحلو الذي كان يحب. ثم رويت عنه الحكايات، وعرّفت الجاهلين به عليه، فقد حدثتني زوجات كثر ممن قضوا بأن الفاصل في حياة كل منهم كان استشهاد أسامة ووالده البروفيسور.

 

أمّا الآن..

 

فقد مرت ثلاث سنين على هذا، وإني مع كل رسالة تصلني من زوجة شهيد لفقدها الطازج، تقذفني إلى الهاوية حين كنت ضعيفة عاجزة، وأدركُ تماماً أن ما مررت به حينها ،تحياه آلاف الفتيات بعمر الورود اليوم اللواتي ودعن أزواجهن، ما علمنا منهن وما لم نعلم، فيصعب اليوم عدّهنّ ويتعذر إحصاؤهن..

 

وأما نحن..

 

فقد انتزعت الحرب من الأشياء معانيها وأفرغتها من محتواها ولم تبقِ منها إلا أسماؤها. لقد جاء العيد على حين غفلة منّا، في جغرافيا تهمل تقويمات الزمن، ولا قيمة فيها للوقت إلا الذي تبحث فيه عمّا يحميك من الموت.

 

كل محاولاتنا أمام أبنائنا على الأقل لإحياء مراسم العيد “عبثية”. فلا بيوت نزورها، ولا رحم نصله، ولا أماكن نصحب إليها أطفالنا، ولا أسواق نكسوهم بما يليق، ولا أضاحي ولا حتى مكونات أطعمة العيد المعهودة متوفرة أصلا في أسواقنا الفارغة. لكن من يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، وقلوبنا الهشة من هول ما تحمّلت من أجل الله أقرب ما تكون من التقوى.

 

لقد حُرم الغزيون أداء فريضة الإسلام الخامسة، لكنهم يؤدّون اليوم وحدهم فرضاً عجز عن أدائه المسلمون. وإن كان الحج بذل المال لمرضاة الله، فقد بذلوا في غزة المال والنفس والعافية ليرضى الله. وفي حين ارتدى الحجيج من الثياب أبيضها لمقابلة ربهم، فلم يجدوا أكفاناً بيضاء للفّ شهدائهم لمقابلة ربهم. وإن كان الحجاج سيذبحون الهدي ويريقون الدم تقرباً إلى الله، فنحن الذين لم نتذوق اللحم منذ شهور نتقرب إليه بما هو أعز وأغلى. وبينما يبيتُ المسلمون في خيام منى لأداء شعيرة من الشعائر، فمئات آلاف العوائل في غزة اختاروا البقاء في الخيام التي لا تقيهم حراً ولا برداً منذ شهور؛ لأن أفضل الجهاد الرباط وهذه عقيدتهم.

 

وبينما يقف المسلمون على عرفات موقنين بإجابة الدعاء، نقف كل ليلة على باب الله موقنين بالنصر، على خطى ابراهيم الذي أطاع وكاد أن يضحي بولده وإسماعيل الفدائي الذي أسلم رقبته إرضاءً لله.

 

مرددين معه..لبيك اللهم لبيك!

شارك

مقالات ذات صلة