آراء

لفلسطين والحرية!

أغسطس 20, 2025

لفلسطين والحرية!

في مثل هذا اليوم قبل عامين خرجتُ من بوابة المعتقل، بعد عشر سنواتٍ من اعتقالٍ جائر بتهمٍ ملفّقة، لم يكن غرضها سوى الانتقام من الثورة ومن سعينا إلى الحرية، أحيانًا أشعر أنّ عمرًا كاملًا قد انقضى، وأنّها فترةٌ بعيدة مشوّشة من حياتي لا أكاد أستعيدها بوضوح، وكثيرًا ما يراودني الإحساس بأنّني ما زلت محشورًا هناك، وكأنّ الأمر لم يمضِ عليه سوى ساعاتٍ قليلة، بكلّ ما حمله من رعبٍ وحصارٍ وثِقَلٍ وشعورٍ بالعجز في مواجهة آلة قمعٍ لا ترحم، تسحق الأرواح والأحلام على السواء.

بعد أسابيع قليلة من خروجي كان السابع من أكتوبر، وما تلاه من رعبٍ وفزع ما زال يغمر العالم بأسره، ويستنزف إنسانيّة كلّ حيّ فيه، وبرغم أنّ ذلك وحده يفوق طاقة أيّ إنسان، كان للسلطة رأيٌ آخر، لا من الإبادة والحصار، بل ومنّا نحن في ظلالها.

خلال هذين العامين، واجهتُ عشرات التهديدات وحملات التحريض والكراهية، وعقباتٍ رسمية حالت دون استكمال حياةٍ طبيعية ولو في حدودها الدنيا: منعٍ من السفر، وصعوبات في الدراسة والعمل والانتقال والعلاقات الإنسانيّة، تعرّضتُ لهجماتٍ أسبوعية وبلاغاتٍ وشتائم وتهديدات طالتني وطالت أهلي أحيانًا، وسُعار رسميّ ومترسمن إثر كلّ مقالٍ أو قصيدةٍ أو مظاهرة أو حتى منشور على منصات التواصل الاجتماعي، واستدعاءات لا تنتهي للتحقيق أمام نيابة أمن الدولة العليا في قضايا نشر وإبداع، فضلًا عن إيذاءٍ مقصودٍ لمقرّبين منّي عقابًا على صداقتهم، لقد كان استنزافًا ماديًّا ونفسيًّا وذهنيًّا وبدنيًّا بلا مبرّر ولا نهاية، وما زال حتى لحظة الكتابة تلك.

وقبل كلّ ذلك ومعه، كانت تصل رسائل مكرّرة وسخيفة، موجّهة لكلّ من يتناول قضية المعتقلين حين كان الحديث عنها مسموحًا: “ها هو دومه خرج، انظروا ماذا يفعل!” وكأنّ المطلوب تحميلنا نحن ـ أنا وأقراني ـ مسؤوليّة توقّف الإفراجات أو تعطيل قرارات العفو، ليُفرض علينا شعورٌ بالذنب أو يُملى علينا الخَرَس.

والنتيجة البديهيّة كانت عزلةً قسرية عن المحيط الطبيعي، لولا دائرةٌ من المنبوذين والمنبوذات الذين يشاركونني ذات الحال، وما زلنا نحافظ على تواصلٍ متبادل ودعمٍ متبادل.

استمرار هذا النهج في التعامل معي ومع رفاقي ورفيقاتي من النشطاء والسياسيين والحقوقيين والصحفيين، هو جريمة سلطة متواصلة، محميّة بغطاءاتٍ قانونيّة، يجب أن تتوقف، لا لأنّها جريمة وحسب، بل لأنّها كذلك غبية وجهولة، ونتائجها عكسيّة منذ سنواتٍ وحتى اليوم، معي ومع غيري؛ فالإرهاق والإيذاء والاستنزاف لا يغيّرون فكرًا، ولا يبدّلون انحيازًا؛ كل ما يفعلونه هو أنّهم يضاعفون أسباب الخصومة، ويعمّقون الإيمان بضرورة المواجهة.

ولحسن الحظ ـ أو لسوئه ـ لم أشعر يومًا بالذنب، ولم أحمل نفسي مسؤوليّة قرارات السلطة، لا في حقي ولا في حق أهلي وأصدقائي أو غيرهم، ولم أقس قراراتي يومًا بميزان التبعات والعقوبات، سواء كان ذلك وعيًا أو حماقة، فهو الواقع، ليس فقط لأنّي مدرك حدود قدراتي وأثري وإمكاناتي الهامشيّة المتواضعة، بل أيضًا لأنّي منذ زمنٍ بعيد أحرض على ألّا نقبل بالقمع الذاتي أو بالوكالة، إذا كان لا بدّ من قمع، فليكن بيد السلطة لا بيدنا.

منذ اللحظات الأولى بعد خروجي، حدّدتُ مجالات اهتمامي وحدود تفاعلي، صحيح أنّ السلطة وأذرعها الأمنيّة دفعتني قسرًا إلى موقع لم أرغب في الانغماس فيه قبل أن أخوض رحلة تعافٍ ممّا مضى، لكنّها ـ كعادتها ـ استعجلت بغباءٍ وحقد، ومع ذلك بقيتُ حريصًا على البقاء في حدود الدور الذي اخترتُه لنفسي؛ لا أُقدِمُ على خطواتٍ انتحاريّة ردًّا على الضربات، ولا أتراجع تحت وطأتها، ما استطعت.

وكما أنّني لستُ رهينة مواقفي في مراحل سابقة من حياتي؛ فمن أراد التعامل مع “دومة 2011 أو 2013” فليذهب إليه هناك، أمّا أنا، فـ هنا اليوم، أحمل ما غرست ـ خيرًا وشرًّا ـ وأتعامل معه بوعيٍ وصدق، أيًّا كانت نتائجه، لست أنوي مجاملة معسكرٍ تحت عقدة الذنب أو طمعًا فيما عنده، ولا معاداة معسكر آخر تحت عقدة التبرؤ أو خوفًا من حسابه. أمّا السلطة فتعرف كما نعرف جميعًا  أنّ نهايتها حتميّة، ولعلّها تكون قريبة كما آمل، لكنّ غرور القوّة يعميها عن مبررات التدارك، إن كان ثمّة تدارك، ويغرقها أكثر في المزيد من الدم والمظالم.

لا يُقارَن أيّ وضعٍ بالمعتقل، صحيح، لكنّني ما زلت مصرًّا على السعي إلى حياةٍ طبيعية، على قياس الأصل لا على قياس ما يُتاح قسرًا.

لفلسطين… وللحريّة

شارك

مقالات ذات صلة