سياسة
مع أول صاروخ أُطلق على قطاع غزة، بدأ الغضب الشعبي، ومع أول قصف لبرج سكني، ترعرع الغضب، ونما مع المجازر المتسارعة حتى وصل ذروته في مجزرة المعمداني. آلاف، عشرات الآلاف، مئات الآلاف نزلوا إلى شوارع العواصم العربية غاضبين منددين بكل شيء، بإسرائيل، بحلفائها الدوليين، وبعملائها العرب، الغضب كان جليًا في العواصم الكبرى، ولكن مع استمرار المجازر وتسارع وتيرتها تزامنًا مع تشديد القبضة الأمنية العربية، انفرط الغضب العلني في الشوارع، وتحول إلى أزقة “السوشال ميديا”.
في القاهرة، وفي السنوات التي سبقت يناير ٢٠١١، كانت مواقع التواصل الاجتماعي تعمل على نمطين، الأول: التعبير عن الغضب المتصاعد في الشوارع، والثاني: تجييش هذا الغضب من خلال الوقفات الاحتجاجية. وقفات خالد سعيد، وقبلها احتجاجات “سلم نقابة الصحفيين” والدعوة لإضراب ٦ إبريل ٢٠٠٨ وغيرهم.
كانت العلاقة بين الاحتجاج في الشارع والسوشال ميديا، علاقة دائرية إن جاز التعبير، الغضب يزيد في الشارع – يتحول للسوشال ميديا – تدفعه السوشال ميديا للتظاهر- يتضخم عدد المتظاهرين – تنفجر شجاعة التعبير على السوشال ميديا – ويزيد عدد المحتجين في الشارع إلخ. في النمط الجديد العلاقة عكسية، يزيد الغضب على “السوشال ميديا” يقل الغضب في الشارع.
ولكن أين يذهب هذا الغضب على السوشال ميديا؟ أين يتجه؟ علم النفس يقول إن الإنسان في حاجة إلى أحد أمرين للفرار من حدث مأساوي ومن غضب لا يُستهان به، التقليل من أهمية الأمر أو القفز عليه وكأنه لم يحدث.
الطفل الذي ذُبح في رفح وانفصلت رأسه عن جسده الصغير إثر قصف قوات الاحتلال خيام النازحين في منطقة المواصي، خرجت من جسده ورود بعد قطع الرأس، والطفلان الذين دهست الكتل الخرسانية جثمانيهما الصغيرين، حتى كادت تخرج أمعاؤهما من فمهما، في خلفيتهما حدائق وأشجار ويخرجا لسانيهما خلال اللعب، وليس نتيجة الدهس المأساوي.
هذه حيل مريحة يستطيع المستخدم أن ينشرها، وبدلًا من نشر الصور المأساوية التي لا يتحملها، يُخرج المستخدم لسانه شخصيًا للواقع، ويقول له أنا لا أراك. لكن عندما تدفن النعامة رأسها، هل يعني هذا أن الخطر لم يعد موجودًا؟
التدوين على “السوشال ميديا”، ونشر الأخبار، وزيادة أعداد المتضامنين، وإبقاء جذوة النار مشتعلة، أمور ضرورية، وطبقًا لمعاريف، استطاع مؤيدو فلسطين في الفضاء العام، بما فيه الفضاء الإليكتروني، هزيمة السردية الإسرائيلية خلال حرب غزة. مكمن الخطورة أن يتوقف الأمر عند هذه النقطة، والأخطر أن تتحول الكتابة المباشرة إلى الرمزية.
أحيانًا الترميز يكون مفيدًا في ظل القمع، مثل حمل “ثمرة البطيخ” كرمز للعلم الفلسطيني عندما أراد الاحتلال للعَلم أن يختفي، أو طبخ “وجبة المقلوبة” كرمز لمقاومة محاولة الاحتلال فرض هويته، لكن عندما تُطبخ وجبة المقلوبة في فاعليات بنية الاحتجاج أو “تُقلب” في المسجد الأقصى “أثناء الإبادة الجماعية في غزة” من باب التضامن، فإن الأمر يتحول إلى كوميديا سوداء يصبح فيها “البطيخ” هو الرمز ويُرفع أكثر من العلم الفلسطيني شخصيًا، رغم غياب القمع في معظم الحالات. وبدلًا من رفع العلم في كل مكان ومقاومة من يحاول قمع رفعه، نخسر مقدمًا، ونرفع البطيخة!
التمييع الذي بدأ بالمقلوبة والبطيخ، ومر بلوحات “تُرمسن” الواقع، وصل أخيرًا إلى مظاهرة الكترونية بعنوان “كل العيون على رفح”. كل ما عليك فعله هو أن تنشر الصورة المتخيلة بالذكاء الاصطناعي والبعيدة كل البعد عن الواقع، لدرجة أنها تُصور رفح كمنطقة خيام تحيطها الجبال. سارع “المؤثرون والفنانون” لنشر الصورة التي لا تعني شيئًا، لكنها مريحة، تريح الناشر والمشاهد، لا دماء ولا موقف سياسي، مجرد “العيون على رفح”.. ماذا تفعل رفح بعينيك؟
في اللحظة التي تُدك فيها رفح وجباليا ببرنامج “لافندر” والذي يحدد للجيش الإسرائيلي باستخدام الذكاء الاصطناعي أهدافًا مشبوهة ليستهدفها بالطيران والمدفعية، الأهداف التي وصل عددها إلى ما يقارب ٤٠ ألف فلسطيني، بالإضافة إلى بيوتهم، أي نحو ٨٠ ألف غارة تم التصريح بها من قبل الذكاء الاصطناعي واعتمدها الجيش الإسرائيلي دون تدقيق بشري، طبقًا لصحيفة واشنطن بوست.
على الجانب الآخر نستخدم نحن الذكاء الاصطناعي لاجترار صور تقلل من أهمية الكارثة. تضفي منظرًا جميلًا على الركام. تخفي الدم. تجعل الضحية تبتسم، وتقلل إحساس الذنب لدى الناشر في نهاية اليوم، مرتاح الضمير أدى ما عليه، لم ينشر صور بيوتٍ مدمرة، ولا أشلاء أطفال. ينظر لبطيخته ويستعد لكتابة بوست عن المقلوبة ورمزيتها، ويدفن رأسه في الأرض، بينما تحدث الإبادة فوقها.