مشاركات سوريا
في مشروعٍ سوري يجمع البيئة بالعدالة الوجدانية، تطلق مكتبة مارونا بالشراكة مع إيبلا دار الثقافة والفنون مبادرة سرديّة بيئية تمتد على جميع الأراضي السورية بالتعاون مع المجتمعات والشركاء المحليين، تتمحور حول زراعة شجرة مثمرة باسم ضحية مدنية رحلت ظلماً ترافقها بطاقة تعريفية تحكي سيرتها برفقة رمز QR يقود إلى رسالتها وقصة الضحية على منصات المبادرة بهدف إيصالها للناس لتبقى الحكاية حيّة لا تُختزل في تاريخ جاف أو اسم عابر.
لا تكتفي المبادرة بتخليد ذكرى الضحية، بل تجسدها في كائن حي يتنفس معنا يظلّل المكان ويفيد للناس، فاختيار الشجرة لم يكن صدفة، واختيار التين تحديداً له رمزيته الخاصة.
وخلال هذا التقرير، سنتحدث مع القائمين على المبادرة للاستفسار عن سبب إطلاقها، ولماذا ربطوا الذاكرة بالشجر، وكيف يختارون الضحايا والأماكن في محاولة لفهم كيف يمكن للحياة أن تنبت من قلب الغياب وفق مفهومهم.
المبادرة “بمثابة صدقة جارية”
اختار منظمو المبادرة الزراعة لغة للعزاء والوفاء، فليست الشجرة هنا كائناً نباتياً فحسب، إنها امتداد لحكاية من رحلوا ظلماً تنمو على الأرض ذاتها التي شهدت وجعهم، لتقول إن الذاكرة لا تموت، بل تبقى داخل أحبابها، والحياة فعل استمرار لا توقف.
وقالت مروة السلوم، منسقة مبادرة “حدائق التين” ومؤسسة مكتبة مارونا لموقع “سطور”، إن بعض العائلات تتحوّل الشجرة بالنسبة لها إلى قبر حي وشاهد صامت، يقف أمامه الناس ليبكوا ويبتسموا في اللحظة نفسها، وكأنها تلمّ ما تبقى من الحكاية بين أغصانها.
وأوضحت السلوم أن هذه الأشجار لا تُزرع للتزيين أو التجميل فقط، بل تزرع على أنها فعل علاجي عميق، فهي “تفتح باب العزاء، وتعيد للناس حقهم في الحزن والاعتراف بالفقد، وتمنح الأرض بعض ما فقدته من خضرة بعد سنوات الحرب”.
ومن جهته، أوضح أحد مؤسسي المبادرة جابر بكر لموقع “سطور”، أن الأشجار المثمرة تمثّل “صدقة جارية” على أرواح الضحايا والمفقودين، بتجسّيده في شجرة تحمل بطاقة تعريفية ورمز QR يروي للزائرين حكاية الضحية، ويتم اختيار الضحايا عبر استمارة إلكترونية يملؤها أي شخص، ويجري الفريق تحقيقاً دقيقاً للتأكد من صحة المعلومات قبل توثيقها، لتتحوّل البيانات إلى قصص حيّة تُروى بين الأشجار.
كما أضاف جابر أن اختيار الزراعة جاء بشكل أساسي لتخليد ذكرى الضحايا، ولأن الأشجار كائنات حيّة معمّرة، قادرة على الاستمرار والعطاء، وتربط الذاكرة بعلاقة مباشرة مع الأرض والمجتمع المحلي. مؤكداً أن المبادرة تعتمد على تعاون الأهالي في توفير الأراضي المناسبة وتحضيرها ورعايتها، لتصبح جزءاً من فضاء جماعي يربط بين الراحلين والأحياء، ويخلق شبكة تعاون بين العائلات، ومنظمات التوثيق، والجهات الراعية.
خلف كل شجرة تين في هذه الحدائق، حكاية إنسان رحل ظلماً، واسم كان جزءاً من حياة مجتمع قبل أن تخطفه الحرب أو القمع، ولم تُزرع هذه الأشجار عشوائياً، بل ارتبطت بأسماء مدنيين دفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم أو لانتمائهم أو لمجرد كونهم أبرياء دون سبب واضح، لتصبح كل غرسة شاهداً حيّاً على أن الذكرى لا تُختزل في رقم أو تاريخ، بل تبقى تنبض في قلب الأرض التي أحبّوها.
وبيّنت مروة السلوم، أن المعيار في اختيار من يُخلَّد واضح فالمدنيون الذين لم يحملوا السلاح، والذين قُتلوا تحت التعذيب أو في العمليات الحربية، أو استُهدفوا بسبب لونهم أو عِرقهم أو جنسهم أو دينهم أو طائفتهم أو موقفهم السياسي أو معتقدهم.
وأشارت السلوم خلال حديثها لسطور إلى أن هذه القرارات تُتخذ بالتشاور المباشر مع عائلات الضحايا، ومع الفاعلين المحليين داخل سوريا إذ يُطلب الإذن أولاً، ثم تُجمع الحكايات وتُروى بعناية تحافظ على كرامة الراحلين، وتبقي إنسانيتهم في الصدارة.
اختيار المكان يخضع لمعيارين أولاً الملاءمة البيئية وثانياً الدلالة الرمزية أو الارتباط العاطفي بالموقع، بحيث يكون الغرس ممكناً وذا معنى في الوقت نفسه، مشددة على أن النتيجة النهائية ليست مجرد أرشيف جامد بل مساحات مفتوحة تُدار بأيدي رجال ونساء من المجتمع المحلي، وتحظى بدعم السوريين وأصدقائهم حول العالم، وفق مروة السلوم.
وعن اسم المبادرة، قالت السلوم: “قبل التهجير، كانت هناك مسطبة في إحدى القرى تجتمع حولها العائلة، وكانت الجدة تجلس عليها تنتظر عودة ابنها المغيّب. بعد أن جاء الدمار، نبتت على المسطبة شجرة تين، وكأنها تواصل الانتظار، من هنا وُلد اسم “حدائق التين” ليقول إن الحضور يمكن أن يعود على هيئة غصن أخضر”.
وأكدت سلوم أن الأثر المقصود من المبادرة يتجاوز التوثيق، فهو يفتح باب الاعتراف بالألم، ويساهم في صياغة ذاكرة سورية أكثر عدلاً وإنصافاً، لا مجرد تفصيل في رواية سياسية، مشددة على أن “كل شجرة هي بديل عن نصب حجري، وكل قصة تُروى خطوة أولى نحو عدالة تبدأ بالاعتراف بالوجع ومنحه مكاناً في حياتنا المشتركة”.
وأكد جابر بكر أن الأثر الأساسي للمبادرة على المجتمع السوري يتمثل في بناء شبكة علاقات متكاملة بين الأهالي، المجتمعات المحلية، ومن يشاركون في عمليات التشجير والكتابة والتصميم وإقامة الورش والمعارض. ولفت إلى أن هدف المبادرة هو تحويل ذكرى الضحايا من مجرد أسماء أو أرقام إلى حضور حيّ يومي، يتيح للأحياء التفاعل مع حكاياتهم، وإقامة علاقة مستمرة معهم ومع بعضهم البعض عبر هذه الذكرى.
وأضاف أن هذا النهج يعيد ترسيخ مفهوم الاحترام والتقدير المتبادل بين السوريين، ويساهم في إعادة بناء الهوية السورية وفهمها عبر التربية المجتمعية والثقافية، من خلال ربط الماضي بالحاضر بطريقة حية ومستدامة.
المبادرة ليست مجرد مشروع بيئي أو عمل رمزي، بل جسراً يربط الماضي بالحاضر، ويحوّل الوجع إلى مساحة حياة، تحفظ ذكرى الضحايا في جذور الأرض وفروعها، لتظل الحكايات حيّة في قلوب الناس وأحاديثهم، شاهدةً على أن الذاكرة لا تُختزل في التاريخ، بل تنبض كلما أزهرت شجرة أو أثمرت ثمرة.