آراء
قد رأينا وتعلّمنا منذ فجر التاريخ، أنّ الصراع بين الحقّ والباطل قائمٌ ومشتعل لا يهدأ. نعم، قد تتبدّل الوجوه، وقد تختلف الأزمنة، لكن المعركة الوجودية بين الحقّ والباطل وبين الخير والشرّ مستمرة؛ فالباطل يحاول أن يمدّ سلطانه على العقول والأفئدة، والحقّ يسعى أن يشق طريقه بين ركام الظلم والجهالة، وفي قلب هذه المعركة، كان هناك دائمًا شهود خيّرون يروون ما جرى ويحكون ما حصل للآخرين، ويكشفون ما حاولت قوى الظلام إخفاءه، ومن هؤلاء الصحفيّون ونقلة الأخبار اليوم من أصحاب الضمائر الحيّة، كما كان الكتبة والشعراء والمؤرّخون المستقلون بالأمس.
ففي كلّ مرّة يسقط فيها صحفيّ برصاصةٍ غادرة من قوى الشر، فالهدف ليس أن يهوي جسده وحده، بل الهدف أن تُدفن معه شهادة حيّة على زمنه، و شهادة كان يحملها كمن يحمل شعلة في ليلٍ طويل ليري الآخرين ما يعانيه الناس. فإنّ قوى الشر تعرف أنّ بقاء الشاهد يعني بقاء القصة، وبقاء القصة يعني فضح الجريمة؛ لذلك، لم يكن قتل الشهود يومًا عملًا عشوائيًّا لدى قوى الشرور، بل كان هُويّة ثابتة لباطلهم عبر العصور.
ولو رجعنا للعصور الغابرة، نجد أنّ قوى الظلام أحرقت سجلات المؤرّخين ومخطوطات الكتّاب الشرفاء الأوفياء نقلة الحقيقة، واليوم تُكسر أقلام الصحفيّين وتُسكت أصواتهم بالرصاص أو بالتهديد؛ فالقاتل، وهو يضغط على الزناد، لا يقتل فردًا واحداً، بل يقتل ويغلق نافذة تطلّ على الحقيقة، ويهدم جسرًا يصل بالوعي الى الناس، ويمحو سطرًا من الذاكرة الإنسانيّة.
لكن ما هو أدهى من القتل، هو الصمت الذي يعقبه؛ فحين يمرّ خبر اغتيال الصحفي كخبرٍ عاجل، ثمّ يُطوى سريعًا، يتحوّل الصمت إلى شريك للجريمة، ويمسي الجميع شاهدًا صامتًا على جريمة حيّة في محكمة التاريخ.
ومع الأسف، نجد أنّه مع مرور الوقت، يتعوّد الناس على غياب الحقيقة والحقائق، ويظنّون أنّ ما يُروى لهم من قنوات قوى الشر أنّها هي الحقيقة، في حين أنّ الحقيقة مختبئة خلف ضبابٍ كثيف، ينتظر من يزيحه عنها.
لذلك فإنّ اغتيال الصحفيّين وأهل الصحافة هو فصلٌ جديد في كتاب الصراع بين الحقّ والباطل، وإذا أردنا ألّا ينتصر الظلام، فعلينا أن نكون نحن الشهود حين يسقط الشهود، وأن نحمل مشاعل أخبارهم ونكمل شهادتهم ومنتوجهم النقلي، وألّا نسمح للشرّ وقواه وأدواته أن يكتب التاريخ بمداد الكذب والإفتراء. فالحقائق، مثل الأرواح النبيلة العزيزة، إن أُغلقت عليها أبواب النسيان، لا تعود أبدًا لكرامتها.