تأملات
قد يتبادر الى ذهن من اعتاد الترحال والسفر إلى البلاد الأوروبية وعلى رأسها بريطانيا التي غزاها السكسون قديما وكونوا فيها ممالك عظيمة هذا السؤال: متى وكيف بدأ التواصل بين الإنجليز والعالم العربي؟ ، سؤال قد يبدو غريبًا للوهلة الأولى، ففي ظن كثير منا ان اللقاء بين الانجليز والعرب كان ضمن سلسلة من الحروب العسكرية في فترة الحروب الصليبية في القرن الثاني عشر، لكن إذا عدنا إلى مطلع العصور الوسطى سنجد أن هذا التواصل بدأ في فترة مبكرة جداً أكثر مما يظن الكثيرون، وإن كان محدودًا ومقيداً وبعيدًا عن الصورة المعتادة لانتشار الثقافة العربية، فقد صنعه الحجّاج والرحّالة الانجليز الذين حملوا معهم قصصًا وتجارب من أراضٍ عربية تحت الحكم الإسلامي وفي فترات سبقت كثيراً فترة الصدام المسلح بين الانجليز والعرب في الحملات الصليبية.
ومن المهم أن يدرك شبابنا اليوم أن التواصل بين الأمم الأوروبية والمسلمين عبر التاريخ لم يكن محصورًا في ساحات الحروب أو الغزو المسلح كما تصوّره بعض المناهج أو الأعمال الدرامية، بل كان له منافذ متعددة ومتنوعة، فقد بدأ التواصل بين السكسون وبلاد العرب عبر عدة طرق ومنها: رحلات الحج المسيحية إلى الأراضي المقدسة في سوريا وفلسطين وأيضاً عبر التجار الذين حملوا بضائعهم وقصصهم، وأيضاً من خلال العلماء والمترجمين المصاحبين لتلك الحملات السلمية الذين نقلوا المعارف العربية بين القرى البريطانية ، وهذا الفهم يفتح أعين الأجيال الجديدة على أن التفاعل الحضاري الإنساني أوسع وأعمق من مجرد الصراع، وأنه كان في كثير من مراحله تبادلاً للعلم والخبرة والإنسانية قبل أن يكون تنافسًا على النفوذ المسلح لاحقاً بين العرب والانجليز في فترة الحروب الصليبية.
من أبرز هؤلاء ويليبالد، رحّالة إنجليزي وُلد نحو عام 700م، أي في نهاية القرن الأول الهجري، وفي رحلته ما بين 723 و727م، جاب الأراضي المقدسة ومرّ في مدن إسلامية، حتى وصل مدينة صور الساحلية، ويذكر أنه لم يعد إلى إنجلترا، بل استقر في عودته في ألمانيا الحالية وأصبح أسقفًا، وقد كتبت راهبة انجليزية تُدعى هيغيبورغ سيرته والتي تشير إلى تدويناته وملاحظاته عن أوضاع الدولة العربية آنذاك، ولا سيما في بداية الحكم الأموي، كما سجّل انطباعاته حول التحولات السياسية والاجتماعية لدى العرب، وهو ما يجعل رحلته شاهدًا أوروبيًا مبكرًا على مرحلة مفصلية في التاريخ الإسلامي.
أما المؤرخ الشهير بيد في القرن السابع الميلادي الثاني هجري فلم يذكر ويليبالد، لكنه تحدث عن رحّالة آخر يُدعى أركولف، وهو رجل من بلاد الغال حجّ إلى القدس بين 679 و682م ، و في طريق عودته، تعرّض للغرق على سواحل إنجلترا، لكنه نجا بأعجوبة خارقة من الموت ومن هناك واصل برًّا حتى التقى بأحد الأساقفة الانجليز الذي دون شهادته حول وصف الأماكن المقدسة في الشام، مؤكدًا أنه رآها بعينه، وقارن روايته بمصادر سابقة، حرصًا على المصداقية.
فهذه القصص تؤكد أن التواصل بين الإنجليز والعالم الإسلامي لم ينشأ ابتداءً من الحروب أو الحملات الصليبية في مرحلة الصدام العسكري كما قد يظن البعض، بل بدأ عبر رحلات دينية تجارية استكشافية فردية دونت فيها الحكايات، وهو ما يعلّمنا أن الالتقاء الحضاري بين الأمم كثيرًا ما يبدأ بخطوات صغيرة قد لا نلحظها، وأن الرحلة والمعايشة والمخالطة السلمية المباشرة أصدق وسائل المعرفة ونقل التصور عن الآخر، وأن الصور الحقيقية تتشكل غالبًا من روايات الشعوب أكثر من قرارات الساسة والملوك، ولتؤكد أن المعرفة البشرية المتبادلة بين الشعوب قد تسبق السياسة والحملات العسكرية بقرون، وأن جسور التفاهم بين الأمم قد تُبنى من رحالة واحد يحمل شغف الاكتشاف والانصاف، فمتى يعي ملوك العالم ان الشعوب تحب لقاء بعضها البعض على مائدة استقبال المسافرين.