فكر

جيل الصراعات السياسية: بين فوضى الانتماء وسلاح الوعي

أغسطس 5, 2025

جيل الصراعات السياسية: بين فوضى الانتماء وسلاح الوعي

– الكاتبة: لمى عثمان

 

 

نعيش اليوم حالة من الفوضى الشعبية، وتضارباً في الآراء السياسية، ليس فقط بين أبناء الشعب الواحد، بل أيضاً بين الطوائف والشعوب المجاورة. كل تصريح قانوني أو سياسي يتحول إلى ساحة جدل، أسئلة كثيرة تُطرح، لكن لا أحد يصغي. الشعب وجد نفسه في ساحة التخوين، ما دفعه للدفاع عن نفسه وتضحياته بعد أعوام من اغتيال الكلمة. وبين مهاجمة هذا والرد على ذلك ضاعت البوصلة، وغابت الحقائق عن الشاشات الإعلامية.

 

 

السؤال الجوهري: ما السبيل للنهوض بجيل نجا من قبضة الظالم ووجد نفسه مسؤولاً عن قيادة مركبة في بحر هائج، بعد أن طُمست كل خرائط الطريق وغرقت بوصلة الوصول؟ 

 

جيل وُلد في بقعة الصراعات السياسية، لا يعرف الوجهة، وسماؤه مكتظة بالنجوم فلا يعرف أيها توصله إلى المحطة المرجوة، لكنه مطالب باتخاذ موقف يرضي الجمهور ويتوافق مع برستيج وسائل التواصل ومعايير الإنسانية الزائفة. ومع غياب الحجة الواضحة، بدأ البعض بالسخرية ممن يخالفهم، وتتبُّع زلات اللسان، لبناء حجج واهية.

 

 

هكذا تثور الفتن، وتسجن الشعوب في دائرة الاتهامات والدفاع عن النفس، الكل يتحدث، ولا أحد ينصت، ولا مكان لبناء الحجة من خلال فهم التاريخ وتحليل الواقع، وبينما تتشاجر الخراف، الذئب يراقب بصمت، ثم ينقض عليها واحدة تلو الأخرى، دون ضجيج،  والراعي في غفلة من أمره.

 

 

 

كلمة السر لهذه الفوضى: الوعي

 

لكن الوعي الذي نعنيه،  ليس وعي الريلز والانتقادات العابرة. بل وعياً مبنياً على معرفة خاصة وعامة، معرفة قائمة على عمق الفهم والتحليل، ومجردة من التعصب الأعمى والانفعال اللحظي.

 

 

ما نحتاج إليه اليوم هو ضبط النفس وعدم الإذعان خلف ما يروجه أعداؤنا، قبل التحقق من مصدر المعلومة ودقتها.

 

في ظل تعقيدات المشهد السوري وتطور الأحداث بوتيرة لا يستوعبها العقل، يضيع الناس في زحام التحليلات ولا يفرقون بين ما يستحق النشر، وما يجب تجنب الخوض فيه لما يحمله من مسؤولية كبيرة قد تُشعل شرارة أزمة غير متوقعة.

 

فالحذر الحذر، لأن قطعان الذئاب تحاصرنا، وما إن تُفتح الثغرة، حتى تنهش بلا رحمة.

 

من أخطر تعاملاتنا مع وسائل التواصل، نشر ما يوافق فكرنا دون النظر في خلفية القائل وتوجهاته الفكرية، أو التحقق من صحة المعلومة تاريخياً، دينياً، وسياسياً. فإن كنا لا نجيد فهم الصورة كاملة بجوانبها المختلفة، فالواجب أن نسلّم الأمر لأهل العلم والدراية، حتى لا نعبث في المشهد السياسي بسبب قلة خبرتنا، ونصبح عبئاً على الوطن والقيادة، بل ربما نكون سبباً في غرق المركب، ولعل أهم ما نحتاجه في معركة ترسيخ الوعي لدى جيل الصراعات السياسية:

 

 

 

انتشال الجيل من مستنقع التفاهات 

العدو يدرك أن أمة تصحو على ضجيج الترندات وتنام على تحديات فارغة، هي أمة مسلوبة العقل والإرادة، يخترقها الاحتلال وهي مشغولة في الرد والتخوين والدفاع عن ولاءاتهم. 

علينا تحرير الشعوب من سطوة الإعلام الفارغ والنقاشات العبثية، حتى تغدو بلادنا منارة للفكر، شعب يعرف دوره، يدرك حجمه وإمكانياته، يؤمن بقدراته. 

نريد شعباً يشاهد ليفكك السردية الكاذبة، ويصنع سرديته الخاصة، لا شعباً تابعاً بلا عقل ولا أثر.

 

 

 

التأسيس العقدي 

الدفاع عن بلادنا وأرضنا المحتلة ليس مسألة سياسية أو عسكرية، بل هو قضية عقدية متجذرة في حياة الأمة من فجر الرسالة إلى يوم القيامة. فتحرير الأرض لا يكون باعتصام عابر، بل بجهاد أساسه عقيدة راسخة وإيمان لا يتزعزع. 

 

 

وهنا يجب أن نسلط الضوء على قضية في غاية الخطورة، إنّ جيلا لم يُربَّ على أن فلسطين أمانة دينية قبل أن تكون أرضاً مغتصبة، سيتاجر باسمها حيناً، ويصمت عن نصرتها أحياناً أخرى، تبعاً لمزاج المرحلة أو ضغط الجمهور. لذلك، لا بد من العودة إلى أسس التوحيد، وتحرير العقول من الاستلاب الثقافي، والقلوب من الشهوات، والنفوس من الجبن والخنوع، فكل سقوط في العقيدة يتبعه سقوط في السلوك، وكل تخاذل فكري هو مقدمة لتخاذل في الميدان.

 

 

القدس ليست حدوداً مغتصبة، بل دين يُضيع، وتاريخ يُطمس، وشعب يُباد، ومسرى يهوّد..

 

 

 

البناء الفكري للجيل

الحرب اليوم لا تقتصر على الأسلحة الفتاكة فحسب، بل أصبحت حرباً ناعمة تخترق الشاشات وتستقر في العقول. 

نحن مستهدفون في وعينا، في سردياتنا، في قدرتنا على الربط بين الماضي والحاضر، والموازنة بين السياسة والدين، لذلك نحتاج إلى مناعة فكرية تحمي الشعوب من التزييف والتشويه، حتى لا يصبح التشكيك سلوكاً تعيشه الشعوب، ويغدو الحق مطعوناً به.

حرب تستهدف البنية الفكرية للعربي والمسلم، كي تعيد تشكيل الوعي وفق مقاسات تناسب السلطة المهيمنة على دول العالم الثالث.

 

إذن بات تدريب الجيل على القراءة النقدية حاجة ملحة وسلاحاً فتاكاً يجب امتلاكه في زمن الحرب، ليتمكن من كشف خيوط المؤامرات المنسوجة في الخفاء، فلا يكون ضحية لروايات مزيفة يصوغها الطغاة ويُروّج لها على أنها حقائق.

 

 

كلمة أخيرة إلى الشعوب

 

نعيش في سوريا واقعاً لا يوصف، نواجه قطعاناً من المفترسين. نحن الآن مستهدفون من الداخل والخارج، وتتوالى الطعنات فلا ندرك أيّ الأيادي متورطة في ذبحنا.

 

 

ندرك أن هذا الوطن فيه من الخراب ما يكفي، وأن المثالية لا تُدرك في هذه الدنيا، فكان اختيارنا تقديم مصلحة الدولة الفتية على مصالحنا وأهوائنا الشخصية، مستفيدين بذلك من تجارب السابقين.

 

 

وأما عن سياسة التخوين والهجوم قبل التأكد من صحة ما تتداوله المواقع، لهو عين الفتنة، وبذرة الحقد بين الشعوب، فلا تكونوا طُعماً يستخدمه المتربصون لقتل ما بقي من الألفة والوحدة بين أبناء الدين الواحد.

 

 

للفلسطينيين حق علينا، أن نكون بجانبهم، عوناً وسنداً، وأن نُعدَّ هذا الجيل للمعركة الكبرى. فالمواجهة مع الاحتلال حتمية، وإعداد الجيل هو أصدق أنواع الدعم وأعلاها مكانة.

 

ولنا عليكم حق الوقوف بصفنا كشعب مسلم واحد، لا في مواجهتنا، تمهلوا قبل تصديق الأكاذيب، وميزوا الحقائق، فما نحن اليوم إلا أحجار تحركنا التصريحات المتضاربة.

 

فإن نجحت هذه الدولة الفتية تكون نموذجاً تهتدي به الشعوب، ونقطة انطلاق التحرير، وإن فشلت فهي خيانة لدماء الشهداء، وسقطة لا قيامة بعدها.

الثورة انتصرت، لكننا لم نصل إلى الحرية بعد، فطريق الحرية يبدأ بتحرير العقل من التبعية، والنفس من الانهزام، وبناء الإنسان الحر الواعي بقضيته وتاريخه. والشعوب لا تنهض إلا عندما تمتلك وعياً يعرف أين يوجه المدافع، ووحدة تحبط مكر الأعداء، وراية لا تسقط مهما اشتد البلاء.

شارك