سياسة
لو وصل هذا المقال لكم، فأنا إذن حر في سجون بلادي، لا أدعي استثناء في قضيتي ولا فضلا. وأوصيكم بسادتنا الأخيار، من دفعوا ثمن محبة الأوطان غاليا ثمينا من أنفسهم وذويهم وقوت أبنائهم. أوصيكم بالسيدات الثلاث في هذه القضية وبمثيلاتهن في كل قضية. فلربما أشد ما على النفس قسوة وأعصاه أمرا أن تُسلب حريتك تاركا أحبابك وأهلك يتجرعون مرار الفراق وقسوة الوحشة. أما نحن، ومَن على طريقنا فيقيننا أن ”باب السجن خايخ“ وأن السجان حبيس مسكين قائم على نفوس حرة وعقول فائرة، لا يحدها أسوار ولا يزيدها السجن إلا إيمانا.
كنت وأهلي نتحسب لهذا اليوم ونستبسل له. فكم من دموع كفكفناها لأم ثكلى أو زوجة حزينة أو ابن تَيتّم وأبوه حبيسٌ على قيد الحياة، كم أرقتني الليالي خاشيا من حساب الله لي، فطريقي اخترته ومشيتُه احتسابا وعزما، وأما طريقهم ففُرض عليهم، لا لإثم اقترفوه، بل لأنهم أبوا إلا أن يكون لهم صوتٌ وإرادة. ولعل أصدق ما يقال عن حقهم هذا أن من حكم في ماله ما ظلم، هذا وطنهم وهذا مالهم، والسجن ليس مكانهم، بل هو مكان من ضيع حقهم وأنكره.
منذ ارتضيت لنفسي طريق العمل العام؛ حملت أمانة السهر على حقوق الناس والإتيان به ولو في فم الأسد. عاهدت نفسي ألا أفرط لا في أرض ولا في حق، واجتهدت في خدمة المواطنين في كل قضية. لم أكن أتصور أن تمتد الخدمة لقضية الأرض حين فوجئنا بالإعلان عن قرار تسليم السعودية تيران وصنافير ذات صباح. باتت كل جلسة في البرلمان عاصفة، فُرضت علينا المعركة الكبرى حتى دون أن نتحسب لها. كان الغضب بقدر الإيمان بقضية الأرض في مصر، قضية دماء آبائنا التي سالت حرة أبية على رمالها دفاعا عن أرضنا وشرفنا. لم يكن الانقسام انقساما ولا الخنوع كذلك، كان انقساما مصنوعا مفتعلا، فعل فيه الترغيب والترهيب فعاله فباتت قضية أمننا القومي على مدخل خليج العقبة، وثأر آبائنا على رمال سيناء، مفرزة للمواقف ومضبطة للمبادئ.
توالت القضايا وتبدلت مواقعنا، استُبعدت من مجلس النواب بعد فوزٍ محقق، واخترت لنفسي العودة إلى صف الحياة الحزبية. لم أستسغ تصنيفي بالسياسي المعارض، رغم معارضتي المبدئية للكثير من تصرفات وقرارات السلطة، ففي النهاية لا مكسب لنا إلا الصالح العام. آثرت دائما أن أقدم الحلول وأدرس القضايا، تطوعت عشرات المرات لمحاولة إيجاد صيغ بديلة للتعامل مع الأزمات القائمة، حتى لو كانت وليدة الفساد وسوء الإدارة وتقديم المصلحة الخاصة على العامة. لم يكن هناك مانع لدي أن يُعاد تدوير هذه الحلول المطروحة مني ومن غيري لتنسب للسلطة، طالما أن في ذلك تبنياً للسياسة الصحيحة والحلول المبدعة، لكن لا حياة لمن تنادي.
توالت القضايا حتى جاءت تلك التي اعتبرتها أمّ القضايا جميعا، وتحمل بين جنباتها روح مصر وحياتها. قضية مياه النيل كانت ولا تزال أخطر القضايا وأعظمها أثرا، إذ لا رجعة منها ولا حياة بعدها. التفريط في هذا الملف لا شك أنه صورة من صور الخيانة العظمى، فلا حياة للمصريين بدون النيل ولا شريان لمصر في أفريقيا لو جفت منابعه. منذ الاتفاق الإطاري في ٢٠١٥ حذرنا من فداحة الخسارة وأثرها العظيم. مرت سنوات وأوراق المفاوض المصري تتناقص، حق المصريين الأصيل تفتت وفُقد على طاولات المفاوضات تارة وفي الأروقة الرسمية والفنية أخرى. جأرت بالتحذير وتبيان الخطر مرات ومرات، رفعنا دراسات وقدمنا حلولا، والنتيجة طبعا كانت صفر.
قضايا الوطن لا تعالج بالصلف ولا بالتصلب خلف قرارات فاشلة مبنية على دراسات أكثر فشلا، سوء الإدارة لا علاج منه سوى تغيير السلطة. انتهيت لهذا الأمر بعد سنوات من المحاولة. قرار الترشح للرئاسة لم يكن وليد اللحظة ولا ابن ساعته، كان قرار اتخذته منذ سنوات، لكن أوانه آن بتعاظم الفشل واليأس والإحباط لدى جموع الجماهير وأبناء الوطن. كفاف العيش وارتفاع سعر كل شيء قض مضاجع أرباب الأسر وثقل حتى رزحت تحته ظهور المواطنين. كانت اللحظة المهمة في عمر هذا الوطن، التي حاولنا فيها تقديم بديل مدني ديموقراطي لسلطة هي الأسوأ في المائتي عام الأخيرة.
مُنع المواطنون من تحرير التوكيلات على مرأى ومسمع من كل ذي عقل وبصر، واستُهدف المصممون على تحرير التوكيلات بالقبض والحبس والترهيب. واحدٌ وعشرون من سادتنا الأخيار خلف القضبان منذ أكثر من سبعة أشهر بينهم ثلاث سيدات. بعضهم لم يكن حتى صاحب تاريخ سياسي أو انخراط في الحياة الحزبية، يدفعون الآن ثمن المحبة الغالية. لو قرأتم هذا المقال أكون في معيتهم أو بالقرب منهم، خلف قضباني حرا أعرف أن الأسوار مؤقتة والظلام زائل، أعلم أنني لو لم أستطع تقديم ذلك البديل للوضع الراهن سيقدمه غيري، فالتاريخ لا ينسى، والسلطة لا تدوم، والمجد كل للمجد للشعب السيد الحر في الوطن السيد الحر، طال الزمن أم قصر.
فتشبثوا بالأمل.