مجتمع
في أحد أحياء منطقة الفاتح في إسطنبول، تفوح روائح البهارات و”طشة” الثوم و الملوخية والمعجنات، تحضرها أم محمد لا لأطفالها وحسب بل لزبائنها الذين يجدون في وصفاتها وطناً وذاكرة، فتستطيع بذلك تدبر جزء من رزقها ومؤونة يومها.
في هذه المدن الطاعنة في الجمال والبعيدة عن مسقط رأس السوريين، الذين جاؤوها هرباً ولجوءاً، يبرز أحد أشكال الهوية الذي يعيد السوريون إنتاجه ورسم ملامحه سواء في تركيا أو أوروبا وكل البقاع التي حلوا بها.
يرى كثير من السوريين أن تقديمهم لطعامهم وحرصهم على جلب مواده هو نوع من الانتماء لوطنهم وإن كانوا لا يقيمون على أرضه.
ثريا عبد اللطيف، الطالبة في برنامج الدكتوراه بقسم علم الاجتماع في جامعة ابن خلدون بإسطنبول تؤيد ذلك في حديثها لـ”سطور”: “وفقاً لعالم الاجتماع إرفنغ غوفمان فإن كل إنسان ينقل تصوراً معيناً عن نفسه وتتشكل هويته من خلال الممارسات اليومية”.
وتضيف: “هوية المهاجرين يمكن تشكيلها ونحتها بشكل يومي فهي متطورة وكأنها مشروع متحرك تماماً كما يعرفها زيغمونت باومان”.
وبذلك فإن اللاجئون والمغتربون يحرصون بشكل يومي على الارتباط المعنوي بهويتهم وأرضهم في كل العناصر لا سيما المطبخ إذ يعيدون تشكيل هويتهم ونقلها في مكان آخر حاملين معهم أحاسيس معينة، وفقاً لثريا.
ترتبط المرأة السورية بعد الهجرة والنزوح واللجوء بالمطبخ ارتباطاً وثيقاً يتعدى الحاجة البيولوجية اليومية ليصبح طقساً اجتماعياً يعيد تشكيل الانتماء.
حول ذلك تقول الشيف ملكة جزماتي إن علاقتها بالمطبخ “تعدت كون الطعام نشاطاً روتينياً له وظيفية غذائية بل هو هوية ونشاط ثقافي، مسكن لآلام الحنين والغربة، حامل لرسائل حضارية، كما أنه صلة وصل بيني وبين وطني.
الشيف ملكة هي إحدى سفيرات المطبخ السوري في ألمانيا وصاحبة مطعم كما ألفت كتاباً ينقل شغف المطبخ الشرقي لا سيما السوري للقارئ الغربي.
تستيقظ أم محمد وهي والدة لأربعة أطفال كل صباح تتسوق المكونات وتحضر قائمة طعام جديدة، تقول: “الطلبيات كانت بسيطة بالبداية ثم زادت الحمد لله، حتى صرت أعتذر أحياناً ببعض المواسم وأقفل الحجز مبكراً”.
وتضيف “زبائني كانوا سوريين من مدن مختلفة، بعضهم لم يتذوق قط أطباقاً خارج مدينته، سعيتُ من خلال مطبخي لاحتراف كثير من الوجبات السورية من عدة محافظات وتقديمها لأبنائنا هنا”.
غير أن ما لفت نظرها هو إقبال جنسيات غير سورية على أطباقها، وأن” اللقمة الهنية السورية بنكهة البيت والأمهات لها جمهورها وروادها في كل مكان” وهو ما تسعى لتقديمه.
تعج حقائب السوريين في المطارات وعبر المعابر بالكثير من البهارات والوصفات والمجففات. فمن الملوخية إلى البرغل والكشكة إضافة لمشروب المتة الذي يشتهر في كثير من المحافظات لا سيما الساحل السوري.
حرص جلال مولوي الاختصاصي النفسي والاجتماعي (37 عاماً) على جلب كل ما يمكن أن يعينه من مواد في رحلة لجوئه لألمانيا، غير أنه اليوم بات يجد بقالات ومحلات تبيع كل ما يحتاجه.
ويتحدث لسطور عن علاقته بالمطبخ: “أحب الطبخ لكنني أيقنت ذلك بعد وصولي لألمانيا حيث إنني أعتبر ذلك نوعاً من التعافي النفسي بعد يوم عمل منهك ولأنني محروم من جو العائلة، كما أنني لا أفضل الطعام السريع وطعام الشارع”.
ويضيف: “أستضيف على مائدتي الكثير من الأجانب من الأصدقاء والمعارف ودوماً ما يعجبهم الطعام السوري ويصفونه بأنه لذيذ ويصعب رفض الدعوة إليه”.
غير أن الحياة بعيداً عن البلاد في الغربة تتيح فرصة للتعرف على مطابخ أخرى إذ يضيف جلال أنه “أتقن بعض الوصفات الهندية والفيتنامية والعربية لا سيما اليمنية، وأن ذلك يثري مائدته ومطبخه إذ إن المائدة السورية تتقبل تعلم أطباق أخرى وتتقبل المشاركة”
في ظل الاغتراب واللجوء يبرز سؤال مهم إن كان المطبخ السوري يجب أن يبقى كما هو وهل هو منفتح على التجديد والتطوير أو لا.
حول ذلك تعلق ملكة جزماتي صاحبة مطعم في برلين بقولها : “أظن أن الإبقاء على الوصفات كما هي هو تجميد لحركة الحضارة”، وتؤكد “لولا التجديد والتطوير لكننا حتى الآن نتناول أوراق الشجر واللحوم النيئة”.
وتضيف: “هذه أول نقلة حضارية صنعها الإنسان عندما انتقل إلى مرحلة الطبخ وبدأ يجد دماغه وقتاً للتفكير بعد أن كان في معظم الوقت يهضم اللحوم النيئة فحسب”.
تصف ملكة نفسها بقولها: “أنا عصرية مبتكرة في مجال الطعام لكن لا أسقط نكهات وروح الجدات التي ورثناها”
ملكة منفتحة على التجديد والتطوير بالشكل والمضمون وترى أن ذلك نقطة قوة في المطبخ السوري المليء بالنكهات وذي العمق الحضاري كما أنه يوصلها لفئات أكثر لا سيما بما يتناسب مع الذائقة الأوروبية حيث تقيم وتعمل.
تحرص ملكة جزماتي من خلال مطعمها في برلين على تقديم الطعام بوصفه طقساً روحياً اجتماعياً دافئاً، في جلسات ثقافية وموسيقية تجمع من خلالها السوريين وعشاق فن وحضارة الشرق.
حول ذلك تؤكد ملكة: “لم أفكر مرة أن يكون مطعماً تجارياً فحسب ، بل قصة مطعمنا تقوم على كونه ملتقى ثقافي”. وتضيف: “أبحث في الذاكرة عن قصص وصفات وصلات حضارية بين ما نأكل وبين ما صنعنا من حضارة الموضوع عميق ومعقد ، لكنه حقيقي”.
لأكثر من عقد ونصف بعد اللجوء والاغتراب يحارب السوريون النسيان وضياع الهُوية والتشتت والعنصرية وتدمر الأحلام، فيما جعلوا موائدهم في المنفى رسائل حب وسلام لمن يحضرها في مساحات آمنة جديدة استطاعوا خلقها والتشبث بها.