تكنولوجيا

الناجون وبناء الوطن: دعوة لتفعيل الكفاءات المهاجرة

يوليو 26, 2025

الناجون وبناء الوطن: دعوة لتفعيل الكفاءات المهاجرة

على امتداد السنوات الماضية، نزح ملايين السوريين عن بلادهم بسبب الحرب والدمار وخطر الاعتقال والملاحقة الأمنية، حاملين معهم بعض الذكريات وآمالاً معلقة على مستقبل أفضل، وطاقات علمية ومهنية هائلة أثبتت حضورها في الجامعات، ومراكز الأبحاث، والشركات الكبرى حول العالم. 

 

اليوم، وفي ظل الحديث المتزايد عن إعادة الإعمار، تبرز “سوريا الرقمية” أحد أهم مسارات بناء الدولة الحديثة. لكن هذا المسار لن يكتمل بقدرات محلية داخلية فقط دون تفعيل دور السوريين في الخارج، والاستفادة من كفاءاتهم في تصميم وتنفيذ الحلول الرقمية التي تمكّن مؤسسات الدولة والمجتمع من النهوض.

 

فما بات اليوم معروفاً في موضوع الكفاءات السورية في الشتات، يمتلك السوريون في المهجر رصيداً متنوعاً من الخبرات في المجالات التقنية كافة، كالبرمجة والذكاء الاصطناعي، أمن المعلومات والتحول الرقمي، إدارة المشاريع وتحليل البيانات وغيرها. 

 

يعمل الآلاف منهم في شركات كبرى وآخرون يقودون أعمالاً رقمية ناشئة في أوروبا، أمريكا، الخليج، وتركيا. ورغم ذلك، ما تزال هذه الطاقات بمعظمها خارج دائرة التأثير في الداخل السوري، إما بسبب ضعف البنية التحتية، أو غياب الأطر التنظيمية التي تسهّل الربط بين الخارج والداخل، في الوقت الذي يقدّر تقرير للبنك الدولي لعام 2023، عدد السوريين في الخارج بأكثر من 8 ملايين، منهم عشرات الآلاف في ميادين التقنية. وتشير دراسات أخرى إلى أن ثلثهم لديهم استعداد للمساهمة في مشاريع تنموية إذا ما توفرت البيئة المناسبة، وبالتالي غيابهم يشكل بما لا يدع مجالاً للشك مورداً مهماً غير مستغل.

 

ومن ناحية الإقامة، فقد أثبتت التجربة العالمية أن بناء الأنظمة الرقمية الحديثة لا يتطلب التمركز الجغرافي. فبفضل أدوات العمل عن بعد، والمنصات الرقمية، وتقنيات الحوسبة السحابية، يمكن اليوم إنشاء مؤسسات افتراضية، فرق تطوير، ومراكز دعم فني تعمل بكفاءة عبر القارات. ومن هنا، يمكن تفعيل السوريين في الخارج ليكونوا جزءاً من حركة رقمية وطنية، إما من خلال العمل التطوعي أو بأطر مهنية منسقة مع القطاعين العام والخاص عبر شراكات استراتيجية مدروسة تبني أول الجسور بين الداخل والخارج. 

 

إذ الآن وفي هذه المرحلة بالذات، ليس المطلوب أن يعود كل من في الخارج، بل أن نؤسس لمشاريع هجينة، تقوم على فرق سورية موزعة بين الداخل والخارج، تتعاون على تطوير مشاريع كرقمنة الخدمات الحكومية، تطوير منصات تعليمية وصحية، بناء قواعد بيانات وطنية وتعزيز الأمن السيبراني وغيرها. مثل هذه الشراكات ستسمح بنقل الخبرات، وتدريب الكوادر، وتحقيق طفرة نوعية في القطاع الرقمي السوري دون الحاجة إلى استثمارات ضخمة في المرحلة الأولى.

 

و من تجارب مشابهة لدول مثل إستونيا، رواندا، وحتى أوكرانيا، نرى أن هذه الدول استفادت من شتاتها الرقمي في بناء مؤسسات رقمية فاعلة. ففي إستونيا، ساهم المبرمجون المهاجرون في تصميم نظام الحكومة الإلكترونية. وفي رواندا، أنشأ مغتربون بوابات إلكترونية للخدمات الصحية والتعليمية، مستفيدين من دعم حكومي منفتح وتكنولوجيا مفتوحة المصدر. وأعتقد أن الأوان قد آن اليوم لنطلق هذا النموذج بهوية سورية متخصصة.

 

لا يجب أن يُؤجل بناء سوريا الرقمية إلى ما بعد الانتهاء من إعادة الإعمار المادي، بل يمكن أن يبدأ من الآن، بخطوات بسيطة ولكن مؤثرة: إطلاق مبادرات مفتوحة المصدر، تأسيس فرق عمل تطوعية، عقد ورشات عن بُعد، وتنسيق مشاريع مشتركة بين سوريي الداخل والخارج، وبعض ذلك يجري بمجهودات فردية عظيمة لكنها مشتتة وغير منظمة في إطار وطني مستدام وبعيد المدى. كذلك، من المهم أن تفتح الجهات الحكومية والقطاع الخاص قنوات تواصل مباشرة مع الكفاءات السورية في الخارج، وتقدم حوافز حقيقية للشراكة معهم.

 

إن ما تملكه سوريا من موارد بشرية في الخارج ليس عبئاً ولا خسارة، بل فرصة استراتيجية هائلة، فبدل أن ننتظر عودة العقول، لنبنِ معها من حيث هي، ونحوّل الطاقات المهاجرة إلى رأس مال رقمي يعيد وصل سوريا بالعصر الحديث.

المستقبل الرقمي يبدأ الآن… من كل مكان، بأيدي كل السوريين، والأوطان لا تُبنى فقط بمن بقي فيها، بل بمن ظل يحملها معه في غربته.

شارك