مدونات
الكاتب: عبدالرحمن حسنيوي
في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية العالمية التي نتجت بفعل الثورة التكنولوجيا، يطرح وزير المال اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس Yanis Varoufakis فكرة مثيرة للجدل حول “الإقطاع التكنولوجي”، وهو مصطلح يستخدمه لوصف النظام الجديد الذي سيطر فيه قادة شركات التكنولوجيا الكبرى مثل جيف بيزوس، إيلون ماسك، ومارك زوكربيرغ على الاقتصاد العالمي، يعتقد المفكر الماركسي فاروفاكيس أن هذا النموذج لا يقتصر على كونه مرحلة جديدة في تطور الرأسمالية، بل هو تحول حاسم نحو نظام أشبه بالإقطاعية، حيث يمتلك “الإقطاعيون الجدد” المنصات الرقمية التي تمثل الأرض في العصور الوسطى.
الفكرة المركزية التي يقدمها فاروفاكيس في كتابه “Technofeudalism: What Killed Capitalism” هي أن النظام الرأسمالي التقليدي الذي كان يعتمد على الإنتاج والتبادل في أسواق حرة، قد بدأ في التآكل بسبب ظهور منصات التكنولوجيا العملاقة، هذه الشركات لا تقتصر على جمع الأرباح من المنتجات والخدمات التقليدية، بل تعمل على استخراج “الريع” من المستخدمين عبر الخوارزميات والبيانات، مثلما كان الإقطاعيون في العصور الوسطى يتحكمون في الأراضي ويستأثرون بالإيجارات من الفلاحين، أصبح اليوم “الإقطاعيون الجدد” يتحكمون في الفضاء الرقمي ويستفيدون من بيانات سلوكنا في الإنترنت عبر منصات مثل فيسبوك وأمازون.
هذه الفكرة تبرز الفارق بين النظام الرأسمالي التقليدي الذي كان يعتمد على الإنتاج الحقيقي والبيع، وبين ما يسميه فاروفاكيس “رأس المال السحابي” الذي يستند إلى مراقبة سلوك المستخدمين وتحليل البيانات من أجل جني الأرباح، فبدلاً من أن يقدم مالكو المنصات قيمة مضافة للمجتمع، كما كان الحال مع الشركات الرأسمالية التقليدية، فإنهم يستفيدون من الريع الناتج عن “استئجار” المساحة الرقمية عبر منصاتهم.
يرى فاروفاكيس أن التحول من نظام يعتمد على تراكم الأرباح إلى آخر يعتمد على جني الريع يشبه التغيير الذي حدث في القرون الوسطى، عندما انتقلت السلطة من أيدي الإقطاعيين إلى أيدي مالكي أدوات الإنتاج “الآلات” في الثورة الصناعية، ففي وقتنا الراهن بدلاً من الاستثمار في المصانع أو الأراضي، يعتمد الاقتصاد الرقمي على منصات رقمية تتحكم في تدفق البيانات وسلوك الأفراد، وهذا يشمل ليس فقط شركات مثل أمازون وفيسبوك…، بل يشمل أيضاً منصات جديدة مثل العملات المشفرة والميتافيرس…، كما أن هذا التحول في الاقتصاد يعكس تراجعاً في قدرة الأسواق التقليدية على تنظيم نفسها، حيث تحولت هذه المنصات إلى لاعبين يهيمنون على السوق الرقمي ويقودون النشاط الاقتصادي، على سبيل المثال لا الحصر: أمازون ليست مجرد سوق، بل هي سحابة رقمية يملكها شخص واحد، ويتقاضى منها الإيجار بدلاً من تحقيق الربح عبر عملية البيع والشراء التقليدية.
لكن هل يمكن حقاً أن نصف هذا النظام بالإقطاعي؟ في الوقت الذي يتفق فيه بعض الخبراء مع فاروفاكيس حول الطابع المتغير للرأسمالية، يعتقد آخرون أن الحديث عن “نهاية الرأسمالية” هو تبسيط وسطحية مفرطة، كما يشير المؤرخ الأمريكي هنري سنو Henry Snow لا تزال الديناميكيات الأساسية للرأسمالية قائمة، بما في ذلك المنافسة في السوق وقدرة الشركات على تحقيق الربح…، ورغم أن منصات التكنولوجيا أصبحت تهيمن على العديد من مجالات الاقتصاد، فإنها لا تزال تعمل ضمن قوانين السوق الرأسمالي، حيث تعتمد على المنافسة والمبادرة الحرة، ويشير الباحث الأمريكي إيفجيني موروزوف Evgeny Morozov إلى أن التحول الذي نشهده حالياً ليس نهاية للرأسمالية، بل هو مرحلة جديدة في تطور هذه النظام مثلها مثل الإمبريالية، فقد ظهرت نماذج مثل “الرأسمالية المعرفية” التي تعتمد على استخراج القيمة من البيانات والمعلومات بدلاً من الإنتاج المادي.
وفقا لفاروفاكيس، فإننا جميعاً نشارك في هذا النظام من دون أن نكون واعين بذلك، فـ “نحن أقنان السحابة” حيث ننتج القيمة من خلال تفاعلنا مع المنصات الرقمية، لكننا لا نتقاضى أجرًا عادلاً لقاء هذا العمل، في الواقع نحن نقوم بإنشاء “مخزون رأس المال” لهذه الشركات من خلال بياناتنا وسلوكنا على الإنترنت، دون أن ندرك أننا نساهم في بناء الثروة الرقمية، لأن الشركات التكنولوجيا الكبرى تجني الأرباح من خلال مراقبة سلوكنا، مثل التفاعل مع الإعلانات أو استخدام التطبيقات، ومن خلال الخوارزميات تقوم هذه الشركات بتوجيه سلوكنا لصالحهم، ما يجعلنا ننتج القيمة ولكن بدون الحصول على مقابل، وهذا يشبه ما كان يحدث في العصور الوسطى حيث كان الفلاحون يعملون في الأراضي التي يملكها النبلاء الاقطاعيون، ولكنهم كانوا يفتقرون إلى التحكم أو الملكية على ما ينتجونه. بينما يستمر التفاعل مع فرضية فاروفاكيس حول الإقطاع التكنولوجي، يظل السؤال الكبير هو: هل يمكن أن يحدث تغيير حقيقي في هذا النظام؟ البعض يرى أن الحل يكمن في إعادة التنظيم وإعادة توزيع السلطة الرقمية على مستوى دولي، بينما يعتقد البعض الآخر أن الرأسمالية الرقمية ستظل تتطور بشكل جديد يعكس التحولات في المجتمع والاقتصاد.
في أخر المطاف، سواء كان ما نعيشه اليوم يمثل حقاً “الإقطاع التكنولوجي” أو مجرد مرحلة جديدة من الرأسمالية، فإن التحديات التي تطرأ على الاقتصاد الرقمي تثير أسئلة هامة حول العدالة الاجتماعية، وتقسيم الثروات، ودور الشركات الكبرى في تشكيل حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.