سياسة
رغم مرور أكثر من 7 أشهر على سقوط نظام بشار الأسد، ما تزال الساحة السورية تعيش حالة من التعقيد الأمني والسياسي، تتجلى بشكل واضح في استمرار الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية (قسد). فبينما ترى وزارة الدفاع الأمريكية أن هذا الدعم يأتي في إطار “مكافحة تنظيم الدولة وضمان الهزيمة الدائمة له”، ويعتبر مراقبون أن استمرار الدعم يعكس رغبة أمريكية واضحة في ترسيخ “قسد” كقوة موازية تعرقل استعادة الدولة السورية سيطرتها الكاملة على أراضيها.
وفي الوقت الذي تؤكد فيه واشنطن أن موازنة الدعم تهدف إلى حماية السجون ومراكز الاحتجاز ومنع عودة تنظيم “داعش”، وترى قوى سورية معارضة لوجود “قسد”، خاصة في الرقة والجزيرة السورية، أن الدعم الأمريكي يكرّس حالة “الانفصال واللاشرعية”، ويغذي الانتهاكات التي يتعرض لها السكان العرب في تلك المناطق. هذه القوى طالبت، في بيانات وتصريحات متطابقة، بتدخل فوري من الدولة السورية لتحرير مناطقها من “سلطة الأمر الواقع التي تفرضها قسد بدعم خارجي”.
وفي ظل هذا المشهد المتداخل، يبرز انقسام واضح في مقاربة الملف بين من يعتبر أن الدعم الأمريكي ضرورة أمنية لمكافحة الإرهاب، ومن يرى فيه أداة سياسية لإدامة حالة التفكك وإبقاء “قسد” ورقة ضغط على الدولة السورية الجديدة.
وأعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) على موقعها الرسمي، عن تخصيص 130 مليون دولار لدعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والجيش السوري الحر (SFA) المعروف باسم (جيش سوريا الحرة) المنتشر ضمن قاعدة “التنف” العسكرية بريف حمص الشرقي، عند المثلث الحدودي بين الأردن والعراق وسوريا، ضمن “برنامج تمويل تدريب وتجهيز الشركاء لمكافحة تنظيم الدولة” (CTEF) في موازنة العام المالي 2026، ما يمثل انخفاضاً عن موازنة عام 2025 التي بلغت نحو 147.9 مليون دولار، أي بتراجع قدره حوالي 17.9 مليون دولار.
تشمل المخصصات الأمريكية استمرار تدريب وتجهيز “قسد” و”جيش سوريا الحرة”، إلى جانب دعم أمن مراكز احتجاز مقاتلي تنظيم الدولة وتحسين ظروف احتجازهم. كما يهدف الدعم إلى توسيع العمليات العسكرية ضد خلايا التنظيم في شمال شرق وجنوب شرق سوريا، مع التركيز على حماية محيط مخيم “الهول” ومناطق البادية السورية، بالإضافة إلى تعزيز أمن قاعدة التنف وقوات التحالف الدولي المتمركزة هناك.
ويؤكد التقرير أن تنظيم الدولة ما يزال ينفذ هجمات ضد “قسد”، و”جيش سوريا الحرة”، والمدنيين، خاصة في المناطق المحيطة بمخيم الهول وفي الجيوب الصحراوية التي تعاني من ضعف الوجود الأمني.
يشير التقرير إلى أن معتقلي تنظيم الدولة في سوريا يمثلون “أكبر تجمع لمقاتلي التنظيم على مستوى العالم”، ويعد التعامل معهم “أولوية لمنع عودة التنظيم”. ويرى البنتاغون أن إعادة تأهيل مراكز الاحتجاز وتعزيز قوات الحراسة ستساهم في تقليل مخاطر فرار المعتقلين وإعادة تجنيدهم.
كما يتضمن البرنامج زيادة عدد عناصر الحراسة وقوات الأمن المحلية ضمن هياكل قسد في مراكز الاحتجاز، مع تقديم التدريب المهني لضمان تحسين الأداء الأمني والمعاملة الإنسانية للمعتقلين.
يُعد جيش سوريا الحرة (SFA) القوة الرئيسية التي تنفذ عمليات دوريات وهجمات مباشرة ضد تنظيم الدولة في جنوب شرق سوريا، ويوفر الحماية للقوات الأمريكية في قاعدة التنف. وستواصل وزارة الدفاع الأمريكية تقديم المعدات والتجهيزات اللازمة للجيش السوري الحر لمواجهة التهديدات المتزايدة من التنظيم.
يتوزع الدعم المقدم لقسد على عدة فصائل وأجهزة أمنية تتمثل في قوات الكوماندوس، والتي ستحصل على دعم لمواصلة تنفيذ عمليات مكافحة التمرد ضد تنظيم الدولة، بما يشمل التدريب والتجهيز لخمس سرايا كوماندوس، فيما ستتلقى القوات الخاصة (SOT) التدريب والدعم اللوجستي لتنفيذ مداهمات دقيقة وعمليات تمشيط، أما قوات الأمن الداخلي (InSF) ستحصل على معدات وتدريب لتعزيز حماية المدن وإدارة الحواجز وتنفيذ عمليات مداهمة سريعة ضد خلايا التنظيم، فيما ستواصل قوات الأمن الداخلي في المناطق (PrISF) تلقي الدعم لحماية مراكز الاحتجاز وتأمين المحيط ومنع تحركات خلايا التنظيم النائمة.
تراجع الميزانية
وفقاً لبيانات وزارة الدفاع الأمريكية، انخفضت مخصصات “برنامج مكافحة تنظيم الدولة في سوريا” من 147.9 مليون دولار في موازنة 2025 إلى 130 مليون دولار في موازنة 2026، أي بتراجع نسبته نحو 12%. ويُعزى ذلك جزئياً إلى الانتهاء من مشاريع تأهيل مراكز الاحتجاز خلال عامي 2024 و2025، مع استمرار الدعم العملياتي والعسكري للشركاء المحليين في سوريا.
ويرى المحلل العسكري العميد فايز الأسمر، في حديث لـ “سطور”، إن “تخصيص البنتاغون أموالاً من ميزانيته للعام القادم لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) وجيش سوريا الحرة في منطقة التنف يؤكد دون أي شك أن واشنطن ما تزال مستمرة في دعم أذرعها وتنفيذ أهدافها في سوريا، سواء في محاربة تنظيم الدولة أو في ملفات أخرى”.
وأضاف الأسمر: “هذا التوجه الأمريكي لا يتطابق مع ما تريده حكومة دمشق، التي تطالب بأن يكون التعامل الأمريكي مع الدولة السورية نفسها، وليس مع مليشيات مسلحة (قسد) ما تزال ترفض حتى الآن الانخراط في مؤسسات الدولة، بل تعلي من سقف مطالبها إلى درجة تعجيزية لن يقبل بها أي سوري وطني”.
وأكد الأسمر أن “الدعم الأمريكي يعني، دون أن نختبئ وراء أصابعنا، دعماً لكل الإجراءات والتصرفات التي تفعلها قسد، سواء على المستوى السياسي أو العسكري، وهو ما يعكس رغبة واشنطن في الإبقاء على قسد عقدة المنشار التي تعرقل سعي الدولة السورية إلى استعادة السيطرة الأمنية الكاملة على كامل الجغرافيا والإمكانيات الاقتصادية السورية”.
وأوضح الأسمر: “لو كانت الولايات المتحدة الأمريكية جادة في تغيير موقف قسد تجاه الاندماج ضمن مؤسسات الدولة السورية، لكانت ضغطت عليها بشكل أكبر، وجففت منابع تمويلها ودعمها، وأجبرتها على الانصياع لما تريده حكومة دمشق. لكن ما يحدث الآن يثبت أن العلاقة بين مليشيات قسد والحكومة السورية ما زالت متشنجة وبعيدة عن أي توافق في الرؤى”.
وأضاف: “بناءً على ذلك، فإن منطقة شرقي الفرات ما زالت على صفيح ساخن، وقد يكون الحل العسكري السوري التركي قادماً لا محالة إذا استمرت قسد على مواقفها الحالية”.
فيما أشار الأسمر إلى أن “الحكومة السورية، ونحن معها، تعتبر أنه لا يمكن مطلقاً أن تبقى مليشيات قسد كتلة مستقلة وقوة عسكرية خارج إطار الدولة السورية. ومن غير المقبول أن تظل قسد مسؤولة فقط عن أمن مناطق وجودها، أو أن تتسلم إدارة أمن الحدود والمعابر في شرقي الفرات بشكل منفصل، أو أن تحصل على حصة خاصة من الثروات النفطية والغازية. هذا طرح غير منطقي وتعجيزي”.
وشدد الأسمر في ختام حديثه على أن “حالة عدم الاستقرار الأمني والمجتمعي والمعيشي ستستمر، وأن التوترات الأمنية بين قسد والعشائر العربية في هذه المناطق قادمة لا محالة. العشائر العربية لن تبقى صامتة إلى ما لا نهاية، ولن تقبل بحكم قسد غير الشرعي”.
قال الباحث في مركز جسور للدراسات، وائل علوان، في حديث لـ “سطور” إن “الموازنة التي خصصها البنتاغون لعام 2026 ليست مخصصة بشكل دقيق لدعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أو الجيش السوري الحر، والذي أصبح يُعرف الآن بجيش سوريا الحرة، بل هي مخصصة بشكل أكثر تحديداً لاستكمال عمليات مكافحة الإرهاب، وبشكل أدق لتمويل عمليات التحالف الدولي في مكافحة تنظيم داعش”.
وأوضح علوان أن “الجهات الفاعلة التي تعتمد عليها الإدارة الأمريكية حالياً في مكافحة تنظيم داعش هي جزء من قوات سوريا الديمقراطية، وتحديداً قوات مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى جيش سورية الحرة”.
وأشار علوان إلى أن “النقاش داخل الإدارة الأمريكية حالياً يتناول دور الحكومة السورية الجديدة في تنظيم هذا الملف والتنسيق بشأنه. وهناك جهود وضغوط أمريكية تُمارَس لدفع قسد نحو الانخراط الجاد مع الحكومة السورية وإعادة التنسيق في إطار مكافحة الإرهاب تحت إشراف الحكومة السورية، إلا أن هذا الأمر لم يتحقق حتى الآن”.
وأضاف: “أعتقد أن الإدارة الأمريكية ستذهب نحو تثبيت الوضع الراهن الذي يضمن استمرار برامج مكافحة الإرهاب، مع مواصلة الضغط للوصول إلى صيغة توافقية تُمكّن قسد من الانخراط في صفوف الحكومة السورية”.
وأكد علوان أن “إيقاف الدعم ليس هو الأداة المفضلة لدى الإدارة الأمريكية لأن المسألة لا تتعلق بالضغط على قسد، وإنما تتعلق بجهود مكافحة الإرهاب في سوريا. في النهاية، الولايات المتحدة دولة مؤسسات، وهذه المؤسسات تعتبر أن مكافحة الإرهاب جزء من أمن المنطقة ومن الأمن القومي الأمريكي”.
واستبعد علوان أن تلجأ واشنطن إلى خيار تخفيض الدعم في الوقت الحالي، مشيراً إلى أن “لدى الولايات المتحدة أدوات ضغط كثيرة، والدبلوماسية والسياسة لا تقل أهمية عن أداة الدعم المالي. بل إن الأدوات الأمريكية الحالية للضغط أكبر من موضوع وقف الدعم، ولا تحتاج إلى ترتيبات أو وقت طويل”.
واختتم علوان بالقول: “إن تركيا تمارس أيضاً ضغوطاً على قسد، وأعتقد أن من المتوقع خلال فترة قريبة أن تبدأ مفاوضات تهدف إلى إخراج المجموعات المصنفة إرهابية من مناطق الشمال والشرق السوري، مع العمل على إدماج باقي القوات خاصة قوات مكافحة الإرهاب تحت إشراف الحكومة السورية، في إطار تفاهمات تركية أمريكية”.
وجهت القوى السياسية والثورية والمدنية والإعلامية والنخب الوطنية ووجهاء محافظة الرقة والجزيرة السورية بنداء رسمي وعاجل إلى الرئيس السوري أحمد الشرع، مطالبين الدولة السورية بالتدخل الفوري لتحرير مناطقهم من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي وصفتها بـ “الانفصالية المدعومة من قوى خارجية”.
وأكد الموقعون على البيان يوم الأحد، أن محافظة الرقة ومناطق الجزيرة السورية تعاني من انتهاكات جسيمة ترتكبها “قسد”، شملت القتل والتعذيب وخطف الأطفال وتجنيدهم قسرياً، واغتيال وجهاء العشائر الرافضين لمشاريعهم، إضافة إلى نهب الموارد، فرض مناهج تعليمية غريبة، قمع الحريات، وملاحقة كل من يعبر عن انتمائه للدولة السورية.
كما أشار البيان إلى حفر “قسد” الأنفاق تحت المباني السكنية، وتلغيم البوادي، وتسهيل انتشار المخدرات، وتجويع الأهالي وحرمانهم من الخدمات الأساسية، فضلاً عن محاكمها غير الشرعية ومعتقلاتها السرية التي تضم الآلاف دون تهم واضحة.
وطالب الموقعون الدولة السورية باتخاذ الإجراءات اللازمة لتحرير المنطقة، حماية السكان من انتقام المليشيا، إطلاق خطة لإعادة تأهيل المناطق المتضررة، ومحاسبة المتورطين في الانتهاكات، بالإضافة إلى تشكيل لجنة وطنية للتحقيق في هذه الجرائم.
وأكد البيان على تمسك أبناء الرقة بانتمائهم للدولة السورية الواحدة الموحدة واستعدادهم للتعاون الكامل مع مؤسساتها في هذه المرحلة الحاسمة.
وقال محمد عواد البدر، أحد أبناء محافظة الرقة، في حديث لـ”سطور”، إن البيان الصادر اليوم يمثل موقف جميع الأكاديميين والمثقفين واللجان والتجمعات والطوائف في الرقة. وأوضح: “ما دفعنا لإصدار هذا البيان هو استمرار مليشيا قسد في حفر الأنفاق وارتكاب الانتهاكات بحق أبناء المنطقة. هذه الرسالة موجهة للحكومة السورية والمجتمع الدولي كي تصل معاناة المحافظة إلى من بيدهم القرار. هذا البيان يُعبّر عن كل إنسان حر وشريف في الرقة يرفض القهر والظلم والواقع المفروض عليه”.
بدوره، قال حسن الحسون، أحد الموقعين على البيان، لـ”سطور”: “نحن أبناء الرقة تعبنا من الظلم والانتهاكات اليومية التي نعيشها تحت سيطرة مليشيا قسد. لقد وصلنا إلى مرحلة لم يعد فيها مجال للصمت”. مبيناً: “اليوم وجّهنا هذا النداء لفخامة رئيس الجمهورية العربية السورية، نطالب الدولة أن تتحرك لتحمينا وتعيد لنا كرامتنا وأمننا، وتخلصنا من هذا الكابوس الجاثم على صدورنا. نحن سوريون ونريد أن نعيش تحت ظل دولتنا السورية، لا تحت سلطة مفروضة علينا كأمر واقع”.
ومع تجدد الدعم الأمريكي لـ “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في موازنة عام 2026، يتضح أن واشنطن ما زالت تراهن على هذه القوة عنصراً رئيسياً في استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب في سوريا، رغم سقوط نظام بشار الأسد ودخول البلاد مرحلة سياسية انتقالية. يستمر هذا الدعم، رغم انخفاضه النسبي، ما يعكس أن الولايات المتحدة ما تزال غير مستعدة للتخلي عن أدوات نفوذها على الأرض، ولا تنوي في الوقت القريب تسليم ملف الأمن في شمال شرق سوريا بالكامل إلى الحكومة السورية الجديدة.
وفي المقابل، يبدو أن حالة التوتر بين قسد والمجتمع العربي المحلي، خاصة في الرقة ودير الزور، مرشحة للتصاعد مع تنامي مطالب العشائر السورية بإنهاء سيطرة “قسد” وإعادة دمج هذه المناطق تحت إدارة الدولة المركزية. هذه المطالب تترافق مع مؤشرات على احتمال اندلاع صدامات جديدة، سواء من خلال تحرك العشائر أو عبر تدخلات إقليمية محتملة، خصوصاً من قبل تركيا.
ويبدو أن المرحلة القادمة قد تشهد استمرار حالة “الجمود الأمني”، حيث تسعى “قسد” إلى الحفاظ على مكتسباتها بدعم أمريكي، في حين تضغط الحكومة السورية لاستعادة السيطرة الكاملة على الجغرافيا والموارد. وبين هذا وذاك، يبقى مصير شرق الفرات معلقاً على موازين القوى الإقليمية والدولية، وعلى قدرة القوى المحلية على فرض معادلات جديدة على الأرض.