لقد علمنا التاريخ أن اجتثاث الأنظمة الشمولية لا يتحقق بإسقاط الرؤوس فقط، بل باقتلاع الجذور التي غذّت ثقافة الطغيان، ورسّخت القمع في مؤسسات الدولة والمجتمع.
صحيح أنَّ تجربة اجتثاث النازيّة لم تكتمل في ألمانيا إلا بعد عقود من المكاشفة، لكنها ظلّت على الأقل محكومة بسياق قانوني ومدني رغم ما شابها من تسويات. وصحيح أيضاً، أن سوريا ليست ألمانيا، لكنها تذهب اليوم في ذات السياق الذي تبنته الأخرى في إعادة تدوير الضباط النازيين، وكلي أمل أن أكون مخطئاً.
تعرضت ألمانيا لضغوط شعبيّة حادة بعد سقوط النازية حين أعادت دمج مئات الضباط السابقين في أجهزة الدولة، بعضهم كان يمتلك بالفعل كفاءات تقنية وعلمية استثمرت في سياق الحرب الباردة، وذاب بينهم من كان معروفاً بالقسوة والطاعة العمياء دون أدنى خصلة عملية. نتج عن ذلك ماعرف لاحقاً بـ “عقدة الذنب المؤجل” التي تفاقمت وانفجرت مع جيل الستينيات، حين طالب الشعب بمحاسبة المجرمين الذين صاروا هم الدولة، -بالمعنى المحلي-
نقف اليوم، وبعد ستة أشهر من سقوط نظام الأسد على عتبة مشابهة لا قدّر الله، مع فرق كبير في الجوهر بين من تحدثنا عنهم، الذين دون أدنى شك كانوا يمكلون شيئاً لم تستطع الدولة الوليدة في ألمانيا الغربية والحلفاء سويةً أن يرمموه أو يسدوه في قدراتهم الإستخباراتية والقانونية والميدانية وفسرت لاحقاً ولو كذباً على أنها ضرورة وطنيّة.
ما يثير الريبة في حالتنا السوريّة، أن ضباط الأسد لم يملكوا سوى الدم على الأيدي والألسن، والعتمة التامّة في العقول! وهذا لا يغيب عن ذاكرة من كانوا بالقرب منا حتى حين نتحدث عن جمهور الثورة من العالم، لا مشروع وطني ولا وعي سياسي، لا ثقافة مدنية ولا قدرة على بناء مؤسسات تعنى بالشعب لا النظام الذي استماتوا لأجله ألف مرة قبل سقوطه دفعة واحدة.
ما أظنّه أنا والملايين غيري ربما، أن أي إعادة دمج لهؤلاء لأنهم فقط استشرفوا في الليلة الأخيرة ولوحوا بالمصالحة التي لم تمس قلبهم يوماً، هو استدعاء للخراب مرة أخرى، والقفز فوق قبور الشهداء، وهدم سقف الآمال فوق رأس الشعب الذي مازال ينظر ليوم قيامتهم بعينين مفتوحتين على مداهما.
ونظن نحن الملايين، أنه لا يمكن لأي مشروع أن ينهض في بناء سوريا جديدة دون اجتثاث البعث: De-Baathification لا كشعار عام فحسب، بل كعقلية، وثقافة سلطوية، وشبكة عميقة من المجرمين الذين لا يمتهنون شيئاً سوى القتل والكذب! لا كاجتثاث جيراننا حين جاء متأخراً وغاضباً وتحول إلى أداة انتقام أغرقتهم ورمتهم في دورة دموية لا مخرج منها، بل نأمل أن يكون عدلاً لا انتقاماً وضرورة وطنيّة لا صفقة سياسية.