مجتمع

إرث الأسد الذي لم يسقط بعد: كيف زرع النظام الطائفية والمناطقية ضمن المجتمع السوري

يوليو 6, 2025

إرث الأسد الذي لم يسقط بعد: كيف زرع النظام الطائفية والمناطقية ضمن المجتمع السوري

– رهام حمشو

 

 

 

كان سقوط الأسد لحظة تاريخية عظيمة، وفرحة ما تزال تعيش في وجدان السوريين إلى اليوم. لكنها لم تكن نهاية الحكاية لأن الرجل الذي أسقطته الثورة  بنى منظومة حكم لم تسقط بعد، فما تزال تفاصيل الحياة اليومية في سوريا متأثرة بما زرعه ذاك النظام فينا لعقود، وأن أخطر ما خلفه النظام لم يكن الاستبداد السياسي فقط، بل عقلية بُنيت على الطائفية والمناطقية، ترسخت بهدوء في المؤسسات والتعليم والإعلام والأحاديث اليومية. والمرحلة الأهم بعد إسقاط رأس النظام البائد هي إسقاط العقلية التي حكم بها، فهل سقط النظام فعلاً أم أننا أسقطنا الصورة وتركنا الجدار الذي رسمه بيننا؟

 

 

 الطائفية جزءاً أساسياً من الحكم

 

لم يكن النظام السوري “علوياً” في شعاراته، لكنه كان طائفياً في بنيته، استخدم الطائفة العلوية درعاً يحتمي خلفه، وزج بأبنائها في أجهزته الأمنية والعسكرية ليجعلهم رهائن وجوده، إذ لم يكن الهدف إعلاء طائفة، بل استغلالها وتوريطها في ماكينة العنف، ما يجعلها رهينة بمصير النظام. من الصعب على فرد علوي أن يقول إنه معارض دون أن يتعرض لخطر مضاعف ، كما ذكر المعتقل السابق “بسام يوسف” في مقابلة سابقة  “كانوا يضربونني بشدة فقط لأني ابن ضيعة قريبة من ضيعة الرئيس وكيف أتجرأ أن أخرج ضده”، كما ذكر معتقل آخر “قالوا لي إني خائن مرتين، مرة للطائفة ومرة للوطن “.

 

 

كذلك الأمر بالنسبة للطائفة “السنية ” فلم يُستبعدوا أو يُهمشوا بشكل علني، لكنه رسم حولهم دائرة من الشك والريبة، وربطهم بالإرهاب والتشدد وعاقبهم بلا سبب واعتقل وعذب الآلاف منهم لأسباب بسيطة كالتزامهم بالصلاة أو قراءة القرآن وكانت تُهم الإرهاب تُفصل على المقاس . 

 

 

فيجد “السني” نفسه اليوم في كل حدث مرتبط بالإرهاب أو التطرف بحاجة لتقديم براءة ذمة وأنه لا يدعم ولا يوافق على ما حصل. وكان التفجير الأخير الذي حصل في كنيسة “مار إلياس ” دليلاً قاطعاً على أن هذه الفكرة تجاه “السنة” ما تزال قائمة في عقول الكثير.

 

 

ومع اندلاع الثورة، اتسع الشرخ الطائفي بشكل مرعب. لم يُنظر إلى الأفراد كمواطنين بل كأبناء طوائف، وتحول الانتماء الديني إلى سبب للاعتقال أو المجزرة، كما في مجزرة الحولة بحمص. من جهة أخرى، وقع الكثيرون في فخ رد الفعل، فصار كل علوي يُنظر إليه كـ”شبيح”، وكل قاطن في منطقة موالية يُتهم بالولاء المطلق، وهذه العدوى الطائفية كانت تمهيداً منطقياً لما هو أوسع وأشد خطورة: المناطقية.

 

 

 المناطقية: هندسة جغرافية للتمييز

 

لم يكتفِ النظام بتفكيك المجتمع على أسس طائفية، بل مضى أبعد ليُرسّخ مبدأ “فرق تسد” عبر تمييز المناطق بعضها عن بعض، ففي حين نالت دمشق وحلب اهتماماً اقتصادياً واستثمارياً نسبياً، جرى تهميش منظَّم لمناطق الأرياف والجزيرة السورية: الرقة، دير الزور، الحسكة، القامشلي كأنها خارج حسابات الدولة.

 

لم يكن هذا التهميش إدارياً فقط، بل ثقافياً ونفسياً أيضاً. فقد رُوّج عن سكان تلك المناطق أنهم “بدائيون” و”أقل تحضراً”، حتى صارت هذه الأفكار جزءاً من التعابير اليومية، وسائل الإعلام والدراما السورية قدّمت ابن الريف كشخص بسيط أو جاهل. اللهجات الريفية أو لهجة أهل الجزيرة السورية كانت تُسخّر للإضحاك أو الاستخفاف، وتم تعزيز الفجوة النفسية بين المركز والهامش.

 

 لم تكن الجغرافيا مجرد حدود، بل وثائق هوية سياسية واجتماعية. ومع اشتعال الثورة، عمّق النظام هذا الانقسام. فتم تدمير مدن بكاملها، لا لشيء سوى أنها “خارجة عن الطوق الآمن للسلطة”، كما حدث في حمص، دير الزور، ريف دمشق، وحلب. بينما بقيت مدن مثل اللاذقية وطرطوس محمية من الدمار، لا حباً بها، بل لأنه كان يستخدمها حاضنة شعبية له، وحتى بعد سقوط النظام ، ما تزال هذه الفكرة تتسرب إلى الكلام العابر. وهنا يظهر كيف أن منظومة الأسد لا تحتاج إلى رأس لتعمل، بل يكفي أن تبقى أفكارها حية.

 

 

نحو الخلاص، هل نملك الجرأة لتفكيك الموروث؟

 

لقد سقطت صورة الأسد من الجدران، لكن الجدران النفسية التي بناها بين السوريين ما تزال قائمة، الطائفية، المناطقية، والتمييز، هي سموم بطيئة الامتصاص، لكنها قاتلة. المعركة اليوم ليست مع الدكتاتور، بل مع العقلية الدكتاتورية، ليست فقط ضد الماضي، بل من أجل المستقبل، مستقبل لا مكان فيه لإرث يقوم على الشك والخوف، بل على اعتراف متبادل، ومواطنة متساوية.

 

 

وهنا تبدأ أول خطوة نحو الخلاص: الاعتراف بالمشكلة. لا يمكن علاج ما لا نعترف بوجوده، علينا أن نقر أن النظام لم يورثنا فقط دماراً مادياً، بل شرخاً مجتمعياً عميقاً.

 

وحتى لا تظل المعركة حبيسة الندب والتحليل، يجب أن تتقدم العدالة الانتقالية الصفوف. لا بد من محاسبة من تلطخت أيديهم بالدماء، مهما كانت طائفتهم أو انتماؤهم. فالمستقبل لا يُبنى على الانتقام، بل على الحقيقة والعدالة.

 

 

سوريا المستقبل: بين جدار الماضي وأمل الانتماء

 

إعادة بناء سوريا لا تبدأ بالإعمار، بل بإعادة ترميم الوعي والانتماء. نحن بحاجة إلى تربية سياسية واجتماعية جديدة، تُعلّم أبناءنا أن الخطر الحقيقي ليس في اختلاف الطوائف، بل في الجهل والاستبداد والتفكك.

 

اليوم، كل انتماء خارج “سوريا الواحدة” هو عائق. لا قيمة لهوية مذهبية أو مناطقية إذا لم تُبْنَ على أساس المواطنة المتساوية، ولن تنهض سوريا ما لم ندرك أن البلد ليس ملكاً لفئة، ولا لطائفة، ولا لحزب. سوريا لكل السوريين، وكل السوريين مسؤولون عن نهوضها.

شارك