مجتمع

المقاومة في زمن المعونة: حين تختزل الكراتينُ الثورات

يونيو 25, 2025

المقاومة في زمن المعونة: حين تختزل الكراتينُ الثورات

لم يُخلق الإنسان ليحيا من معونة، ولا خاضت الشعوب ثوراتها كي تُكافأ بسلة غذائية. ومع ذلك، لم يعد مشهد الكرتونة الطارئة مجرد صورة عابرة في مسار المأساة السورية والفلسطينية، بل أصبح تعبيراً عميقاً عن الطريقة التي اختُزلت بها قضايانا. لا نتحدث هنا عن رفضٍ للنجدة، ولا عن إنكارٍ للكارثة، بل عن سؤال أكثر جوهرية: متى تحوّل مطلب الكرامة إلى نداء استغاثة؟ ومتى بدأنا نُعرض على العالم كضحايا دائمين، لا كأصحاب قضايا تُحمل وتُدافع وتُصارع؟



تحت وطأة الحرب، وتراجع المشروع السياسي، وتقدّم المنظمات على الفصائل والحركات، تغيرت سرديتنا من خطاب تحرري إلى سرد إنساني منزوع السياق. بتنا نُعرّف بالجوع أكثر مما نُعرّف بالغضب، وبالخيمة أكثر من الهتاف، وبعدد المساعدات أكثر من عدد المرات التي قلنا فيها: لا. في سوريا كما في غزة، صار الدم مادة للتمويل، وصار القاتل ثانويّاً في قصة تتصدّرها صورة الضحية، لا عدالة لها إلا في مواسم التغطية.



هذا المقال لا يهاجم العمل الإغاثي، ولا ينكر الحاجة، بل يطرح سؤالاً أكبر: هل خسرنا ثوراتنا حين قبلنا بأن تُعرض على هيئة حملات موسمية؟ وهل نملك، في زمن الكرتونة، فرصة لاستعادة المعنى؟

 


من صوت إلى صرخة: متى توقفت الثورة عن الكلام؟

 

لم تكن الثورة السورية في بداياتها مأساة، بل فعلاً سياسياً صريحاً، يقوده وعي جمعي تشكّل في لحظة انكشاف عميق مع الذات والسلطة. لم يخرج الناس إلى الشوارع ليطلبوا صدقات، بل نادوا بشيء أقرب للعدالة منه إلى الخبز، وبشيء أبعد من تحسين شروط الحياة: نادوا باستعادتها. وفي اللحظة الأولى التي ارتفعت فيها الأصوات، كان العالم يسمع صوتاً صافياً يطالب بحقه. لم يكن يحتاج إلى ترجمة، ولم يكن مضطراً لتبرير وجوده. لكن شيئاً فشيئاً، ومع اشتداد القمع وتصاعد أعداد الضحايا، بدأ هذا الصوت يتآكل، وبدأت الثورة تتحوّل تدريجياً من خطاب إلى صورة، ومن سرد إلى مشهد بصري محض، يصلح للبثّ أكثر مما يصلح للفهم.



في تلك اللحظة المفصلية، بدأ يظهر التحوّل الأخطر: حين تصبح الثورة شيئاً يُبكى عليه أكثر مما يُقاتَل من أجله، حين يبدأ العالم، ثم المحيط، ثم نحن أنفسنا، في التعامل مع المأساة بوصفها قدراً إنسانياً لا نتيجة سياسية. فصورة الطفل تحت الأنقاض، أو الأم التي تنظر نحو السماء بعد الغارة، تُستقبل بتعاطف فوري، لكنها لا تحمل معها أي إدانة صريحة، لا للنظام، ولا للحلفاء، ولا للمنظومة التي أنتجت هذا القتل المتواصل. يصبح المهم أن يتلقى الطفل علاجاً، لا أن يُسأل عن السبب الذي أوصله إلى هذا الوضع.



يتكرر المشهد ذاته اليوم، بصورة أكثر كثافة، في غزة. تحت القصف المستمر، وفي ظل حرب إبادة علنية، تُغرق المنصات بحملات إنسانية تطالب بفتح المعابر وإدخال الدواء والماء، ويُسحب من المشهد كل ما له علاقة بالسياق الاستعماري القائم، وكأن القصف ناتج عن خلل إداري، أو طارئ طبيعي، لا عن احتلال منظّم له أدواته ومبرراته. تظهر الضحية بكامل تفاصيلها، بينما يُمحى القاتل من الإطار، أو يُستبدل بعبارة فضفاضة مثل “الوضع القائم” أو “تدهور الأوضاع”. وهكذا، ننتقل من مساءلة العالم إلى استعطافه، ومن المطالبة بالحق إلى انتظار التفهّم.



هذا الانزلاق التدريجي من الصوت إلى الصرخة لا يعكس فقط تغيراً في طريقة التلقي، بل أيضاً في طريقة عرضنا لأنفسنا. فحين نكرّر سردية العجز، ونتبنّى لغة المساعدة بدل لغة المطالب، نعيد صياغة أنفسنا كضحايا لا أصحاب قضية. المشكلة هنا لا تكمن في الحاجة ذاتها، بل في تعميمها حتى تُصبح تعريفاً جامعاً لحاضرنا. وكلما ازداد حضور صورة اللاجئ والجائع والمريض في خطابنا، تراجع حضور الثائر والمواطن والمقاوم. وكلما صارت المأساة لغتنا الوحيدة، خسرنا القدرة على التفاوض باسم غيرها.


 

 

المنظمة بدل الحركة، الكرتونة بدل الكرامة

 

لم تعد القوى الفاعلة في المشهد السوري والفلسطيني اليوم هي الأحزاب والتيارات والحركات ذات المشروع السياسي الواضح، بل حلّت مكانها مؤسسات إغاثية ومنظمات غير حكومية، تتعامل مع القضايا بوصفها أزمات إنسانية لا صراعات سياسية. هذا التحوّل لم يكن محايداً، ولم يأتِ فقط نتيجة الانهيار الأمني أو الحاجة الملحّة للإغاثة، بل أعاد تشكيل الخطاب العام وغيّر تموضع الفاعل المحلي نفسه. فحين يقتصر حضورك في الساحة الدولية على دورك كـ”متلقٍ للمعونة”، فإنك تفقد تدريجياً شرعية الحديث عن المطالب السياسية الكبرى، ويُعاد تعريفك على أساس احتياجاتك لا على أساس حقوقك.



أصبحت اللغة المستخدمة في سرد المأساة تتجنّب المصطلحات الصريحة: الاحتلال، النظام، الجلاد، الثورة، التحرر. تُستبدل هذه المفردات بكلمات أكثر لطفاً وغموضاً: الأزمة، الضحايا، التدهور، الاستجابة، التبعات. وتحلّ الكرتونة، لا شكلاً من أشكال الدعم فحسب، بل رمزاً لسردية جديدة: أنت جائع، مريض، مشرّد، وتحتاج إلى عناية فورية. ليس مهماً من جوّعك، ولا لماذا مرضت، ولا كيف هُجّرت. المهم أن تصل المعونة في الوقت المناسب، وأن تُرفق معها صورة توثيقية تشير إلى “جهود المجتمع الدولي”.



في هذا السياق، تراجع الدور الرمزي للمخيم، والحي المُحاصر، والمعتقل، بوصفها أماكن صراع وقهر، إلى مجرد مواقع توزيع. وتحوّل الفلسطيني في غزة، والسوري في المخيم أو الشمال، من فاعل سياسي محاصر إلى مادة إنسانية قابلة للتداول. الكارثة لا تُقرأ بوصفها نتيجة مشروع قمعي أو استعمار مستمر، بل ظرفاً يحتاج تدخلاً إسعافياً من أطراف “محايدة”. وهنا، يصبح القاتل شريكاً في التبرّع، والمجرم جزءاً من الحلّ.



ما يُضعف هذه المقاربة أكثر أن كثيراً من الفاعلين المحليين تماهوا معها، واعتمدوا خطاب الإغاثة مدخلاً للتمويل والاستمرار، لا كضرورة طارئة. وهكذا، لم تعد هناك فواصل واضحة بين العمل الإنساني والموقف السياسي، بين من يطالب بالخبز كحق، ومن يقدّمه كعزاء. وحين تُختزل العدالة في شاحنة طحين، تنحسر المعركة الكبرى إلى لائحة احتياجات، ويُعاد تعريف القضية بكاملها من جديد.

 


المجرم الغائب: حين يصبح الضحية هو الحدث

 

لا تكتمل مأساة الضحية إلا حين يُمحى القاتل من السرد، وهذه إحدى أخطر نتائج اختزال القضايا السياسية إلى روايات إنسانية. فالضحية، حين تصبح وحدها في المشهد، تتحول إلى حالة عاطفية لا تتطلب أكثر من التعاطف. ومن جهة أخرى، فإن تغييب القاتل لا يعني فقط إعفاءه من المسؤولية، بل إعادة تعريف الجريمة بوصفها خللاً في “الوضع الإنساني”، لا نتيجة لعنف مُمَنهَج له أطراف ومصالح وخرائط.



في الحالة السورية، أدّى هذا التغيب إلى تسوية لغوية فاسدة: فالنظام لم يعد يُذكر باسمه في تقارير المنظمات الدولية، بل كأحد “أطراف النزاع”، وكأن الجرائم التي ارتكبها بحق المدنيين لا تختلف كثيراً عن اشتباكات جانبية بين متقاتلين. حتى روسيا، الحليف العسكري المباشر، اختُزلت أدوارها في سياق الوساطة أحياناً، لا التدخّل الدموي. أما إيران، فقد وُضعت في خانة “التأثير الإقليمي”، وكأن تدخلها لم يكن عبر مليشيات عابرة للحدود وقصف ممنهج للأحياء. في كل ذلك، يتقلص حضور الجريمة السياسية، ويتوسّع حضور الكارثة الإنسانية.



وفي غزة، لا يبدو المشهد مختلفاً كثيراً. مع كل مجزرة موثقة، ومع كل جثة تُنتشل من تحت الردم، يتم تداول صور الضحايا بلا أي جهد حقيقي لتثبيت الجهة التي ارتكبت الجريمة. يُكتفى أحياناً بعبارات من نوع “التصعيد”، “العمليات العسكرية”، أو “الضربات المتبادلة”، وكأن الضحايا سقطوا في فراغ، لا في ظل نظام احتلال معروف الأهداف والوسائل. بل إن الاحتلال ذاته، في لحظات معينة، يُقدَّم على أنه طرف ملتزم بـ “تسهيل المساعدات”، لا مصدر الكارثة.



هذا التلاعب اللغوي لا ينعكس فقط في الخطاب الدولي، بل يتسرّب تدريجياً إلى وعينا نحن. إذ نجد أنفسنا نعيد إنتاج الصياغة ذاتها في كلامنا اليومي، فنقول “ما يحصل في غزة” بدل أن نقول “ما يرتكبه الاحتلال”، ونشير إلى “الدمار” بدل أن نسمّي من دمّر. هذه المسافة بين الحدث والفاعل تخلق هوّة بين الواقع ومسؤولياته، وتحوّل المأساة إلى واقع طبيعي، لا إلى جريمة قابلة للمحاسبة.



إن غياب القاتل من المشهد لا يُنقذ الضحية، بل يعيد إنتاج مأساتها، فحين نعتاد عرض أجسادنا المذبوحة بلا أسماء، وسرد نكباتنا بلا سياق، نصير شهوداً لا على الجريمة، بل على محوها. وحين نطالب بالتعاطف أكثر مما نطالب بالعدالة، فإننا، من حيث لا ندري، نمنح القاتل فرصة أخرى لإكمال عمله، هذه المرة بصمت أكثر أناقة.


 

هل نحن أيضاً جزء من المشكلة؟

 

من السهل دائماً أن نحمّل الخارج مسؤولية سرديتنا المشوّهة: المنظمات التي تعيد إنتاجنا كضحايا، والإعلام الذي ينتقي الصور الأكثر إثارة للشفقة، والجهات السياسية التي تتعمّد تغييب المجرم من المشهد. لكن الأكثر صعوبة، والأكثر إلحاحاً، هو أن نسأل عن دورنا نحن، حين قبلنا، ولو على مضض، بهذا الشكل من التمثيل. فقد أصبحنا، في كثير من الأحيان، نعيد إنتاج اللغة ذاتها التي ننتقدها. نتبنّى مفردات “الاحتياج”، ونتحرّك وفق “التمويل”، ونقيس نجاحنا بعدد السلال الموزعة، لا بحجم الوعي الذي استطعنا إيقاظه أو الخطاب الذي حافظنا عليه.



هذا التورّط لا يعني بالضرورة التواطؤ، لكنه يعكس مستوى عميقاً من التكيّف مع واقع مجحف. ففي ظل غياب أفق سياسي واضح، وتراجع المشروع الوطني الجامع، يصبح الخطاب الإنساني هو الخيار الأسهل، بل الوحيد أحياناً، للبقاء والاستمرار. ومن هنا يتقدّم دور المنظمة، ويتراجع دور الحركة؛ ويعلو صوت الحملة الموسمية، ويخفت صوت السؤال الجذري. ويجد كثير من الناشطين أنفسهم محكومين بمنطق التبرير: نُخفف من اللغة السياسية كي لا نخسر التمويل، نُخفض سقف المطالب كي نحافظ على الشراكة، نُعدّل لهجتنا كي لا نُصنّف.



لكن المشكلة لا تكمن فقط في التعديلات الشكلية، بل في أن هذا المسار، إذا استمر، يعيد تشكيل الوعي العام. فجيل كامل من السوريين والفلسطينيين بدأ يتعرّف إلى قضاياه من خلال مواد إغاثية، وحملات تبرّع، وشعارات إنسانية ناعمة، لا من خلال سيرة النضال ومفردات العدالة والتحرر. وهذا التحوّل في الإدراك الجمعي، أخطر من أي خطاب خارجي. لأنه لا يزيّف صورة الضحية فحسب، بل يفرغها من قدرتها على التحوّل إلى فاعل.



الاعتراف بأننا جزء من المشكلة لا يعني جلد الذات، بل استعادة زمامها، فكما نطالب العالم برؤية القاتل، علينا نحن أن نعيد رواية أنفسنا من موقع الموقف، لا من موقع الحاجة، ليس من باب المكابرة، ولا من باب رفض المساعدة، بل من باب تأكيد أن المأساة وحدها لا تكفي لتشكيل قضية، وأن الشفقة، مهما كانت عظيمة، لا تبني وطناً، ولا تحمي ذاكرة، ولا تصنع مستقبلاً.

شارك