مشاركات سوريا

يوميات الثورة والحصار.. بداية ثورة وخبو نجم

يونيو 20, 2025

يوميات الثورة والحصار.. بداية ثورة وخبو نجم

 – مريم الرفاعي



ببيلا… ذاكرة القلب وشهادة الجهاد

 

في زوايا البلدة الوادعة، ببيلا، وُلدنا نحن أبناء الجيل الذي عرف الثورة قبل أن يتهجّى الحروف، وترعرعنا بين أزقّتها الضيقة ومساجدها العامرة، ننهل العلم من مدارسها، ونحفظ القرآن ومكارم الأخلاق من منابرها.

 

 

كبرنا في بيتٍ يتفيأ ظلال السكينة، وتتنفّس جدرانه عبق المحبة والعلم، برفقة أب حنون وأم رؤومة  كانوا اللبنة الأولى في تأسيس عائلة متماسكة، جذورها في الأرض وقلوبها معلّقة بالسّماء، وسط عائلة كبرى يحفها جدي بحبه ويحثنا على الاحترام والتعاطف في كل وقت، لنكون وأبناء عمومنا أخوة قبل أي شيء.

 

 

كانت ببيلا أكثر من بلدة، كانت الوطن في أصدق معانيه، وبيتُنا فيها كان الحضن الدافئ الذي حملناه معنا حيثما أخذتنا دروب الحياة.

 

 

 بين جدران البيت قصة ثورة

 

كنّا ستة إخوة، أربع بنات وصبيّين، تربطنا رابطة من نوعٍ خاص: لأجل بعضنا نحيا، ومن أجل بعضنا نموت.

 

وفي الرابع والعشرين من آب 2012، وُلِد أخي عبد الله، طفلاً جاء إلى دنيانا حاملاً النور في قلب الظلام، في يومٍ تزامن مع مجزرة داريا ليودع العالم مئات الشهداء بأفظع الطرق التي يتحملها البشر ويولد نور أيامنا القادمة التي لم نكن نظن أنها ستظلم أكثر، في ذروة انطلاق الثورة السورية حينما كنّا نُدندن أناشيد الحريّة بصوتٍ خافت، نخفيها خوفاً، ونردّدها شوقاً.

 

 

تابعنا أحداث درعا من خلف الشاشات، وقلوبنا تخفق بانتظار لحظة الانفجار في حاراتنا… اللحظة التي نصيح فيها: “حرية”.

 

ومع بدايات الثورة، بدأ التهجير، بعد أن شهدنا معارك دامية أسفل بناء بيتنا الذي يواجه مفرزة أمنية في المنطقة، لتبدأ رحلات النزوح تنقلنا من يلدا إلى عقربا فـالمليحة وحتيتة التركمان والحرجلة، وبدّلنا سبعة منازل خلال شهور. بالكاد نضع رؤوسنا على الوسادة حتى تلاحقنا أصوات الانفجارات، فنحزم ما تبقّى من أرواحنا ونرحل. وفي النهاية، اتخذنا القرار: “نبقى في بيتنا، معاً… مهما كان الثمن”.

 

 

أخواي التوأم كانا يدرسان في معهد شرعي في المزة بنظام الإقامة الداخلية، يعودان فقط في عطلة نهاية الأسبوع. ومع تصاعد الخطر، قالا جملتهما التي لا تُنسى: “إما أن نعيش معاً… أو نموت معاً.”

 

 

مدرسة تحت الأرض وحاجز فوق الأرض

 

عشنا تحت حصار جزئي فرضه حاجز “البطيخة”، نقطة تفتيش تقرّر مصير الناس بنظرة من الملثم. كنا نقف لساعات، وجوهنا مكشوفة وقلوبنا معلّقة بقرار مزاجي أو خطأ مقصود منه.

 

 

كانت المدارس مغلقة، لكن إرادة الحياة أقوى، بعض الفتيات تطوّعن لفتح مدرسة في قبو جامع، وهناك بدأتُ أولى تجاربي في التعليم، أدرّس الأطفال حروف الأمل تحت سقف الخوف.

 

 

4 آذار 2013: قصف… واستشهاد

 

استيقظنا صباح ذاك اليوم على قصف عنيف مصدره فرع فلسطين ومليشيات إيران وحزب الله من جهة السيدة زينب إذ كانت ببيلا تقع وسط أعتى عدوين للثورة. أُغلقت المدرسة، وصوت المسجد يدعو الناس للبقاء في بيوتهم.

 

 

وعند الواحدة ظهراً، طرق الباب رجلٌ يُخبر أمي أن أخي جهاد قد أُصيب. حملت أخي الرضيع وهرعت خلفه، فيما مشيتُ أنا مذهولة أجرّ قدميّ خلف مشهد لا يشبه الحياة فيما كانت مآذن الجوامع تنادي على الشهداء الذين سقطوا إثر الاستهداف مشيت بخطى ثقيلة.

 

 

رأيت أبي يبكي… بكاءً لم أرَ مثله من قبل، والناس من حوله في صمتٍ ثقيل. دخلنا البيت، فرأينا وجه جهاد مغموراً بالدم، وقد نال شرف الشهادة.

 

 

قبل لحظات فقط، كان يطلب من أمي أن تُعدّ له التبولة، فقد كان صائماً ودعا أصدقاءه للإفطار معه.

 

 

استشهد جهاد، وشيّعناه بمظاهرة تليق بروح ثائر. رغم القصف، ارتفعت الهتافات، وعلت الأرواح فوق صوت الموت.

 

 

كان ذاك اليوم شاهداً على استشهاد ثمانية وعشرات الجرحى بينهم خالي وابن خالي، أما أختي ليلى، فلم تُدركه قبل الدفن، وأبي؟ قضى ليلته يبكي، يدعو الله:

“اللهم انتقم… اللهم ارزقنا وأمه الصبر”.

شارك