سياسة

إيران الإشكالية: الشيطان الأكبر والمحيط المرتبك

يونيو 20, 2025

إيران الإشكالية: الشيطان الأكبر والمحيط المرتبك

في تطور مفاجئ، شنّت إسرائيل هجوماً استباقياً مفاجئاً على إيران،  كما عودتنا سابقاً في خوض الحروب لا شيء جديد حروب خاطفة وسيطرة جوية وتصريحات إعلامية صلفة من قبل مسؤوليها، أثار هذا الهجوم ردود فعل متباينة بين السوريين. بالنسبة للبعض، شكّل هذا التصعيد مناسبة لاستحضار الدور الإيراني غير المحدود في دعم النظام السوري طوال سنوات الحرب، بينما نظر آخرون وأنا منهم إلى الحدث بقلق أوسع، لما قد يحمله من تداعيات إقليمية على مستقبل سوريا والمنطقة عموماً. فاحتمالات تغير موازين القوى الإقليمية، وتزايد النفوذ الإسرائيلي، تثير مخاوف مشروعة من مرحلة معقدة قد تشهد مزيداً من التوترات الأمنية والسياسية التي ستنعكس حتماً على الداخل السوري ومستقبله.



الشرق الأوسط مجدداً


مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” هو تعبير سياسي وإعلامي استخدم غربياً بشكل مكثف، في سياقات متعددة للإشارة إلى خطط أو رؤى لإعادة ترتيب الأوضاع السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بعد أحداث كبيرة مثل حرب العراق 2003، أو خلال “الربيع العربي” بعد 2011. وكان يُنظر إلى هذا المصطلح من قبل كثير من المثقفين العرب على أنه أداة استعمارية ناعمة لتفكيك المنطقة، ويرون أن هذه المشاريع تزرع الطائفية، وتغذي الصراعات الأهلية، وتخدم القوى الكبرى أكثر مما تخدم شعوب المنطقة، ويُلاحظ حالياً غياب أي حديث عن هذا المصطلح الضبابي والمشروع الغائم في المنطقة وفي سوريا خصوصاً، فهل أصبح التشكك والحذر من هذا الشرق الأوسط الجديد والذين كبرنا على أحاديث التحذير منه طي النسيان؟



كان أبرز تجلٍّ لمشروع الشرق الأوسط الجديد في الخطاب الأمريكي على لسان كونداليزا رايس 2006 ، خلال حرب تموز/ يوليو 2006 بين حزب الله وإسرائيل. وكان الهدف الظاهر والمعلن دعم الديمقراطية و”التحرر من الأنظمة الاستبدادية”.



فيما قال المشككون بالنوايا الأمريكية أن الهدف الضمني هو إعادة تشكيل خرائط النفوذ السياسي والديني والطائفي في المنطقة بما يخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية، خصوصاً عبر تفتيت الدول القوية أو “الممانعة” وقد طُرحت خرائط غير رسمية لما يمكن أن يكون عليه “الشرق الأوسط الجديد”، تضمنت تقسيم دول مثل العراق وسوريا إلى كيانات متصورة تستند إلى هويات طائفية أو إثنية، لا إلى حدود سياسية سابقة.



إسرائيل كانت لها مقاربة خاصة بها لمفهوم الشرق الأوسط الجديد، إذ لطالما سعت إلى شرق أوسط لا تهدد فيه الدول المحيطة أمنها، ومشروع “الشرق الأوسط الجديد” وفق النظرة الإسرائيلية المعلنة سابقاً هو دمج إسرائيل اقتصادياً وسياسياً في المنطقة، فيما قد يتطور إلى قيادة إسرائيلية للمنطقة في ضوء معطيات القوة العسكرية، والتي تملك اسرائيل منها ما تستطيع أن تلحق الأذى بدول الجوار مجتمعة، إضافة إلى تهميش القضية الأكثر إزعاجاً لها القضية الفلسطينية عبر التركيز على الصراعات البينية في المنطقة وتضخيمها.



مركزية إيران والثورة الإسلامية


كي نستطيع التحدث عن إيران يجب أن نتحرر من موروث الثورة السورية الطائفي والدموي، ويجب الإشارة دوماً إلى أن النظام الإيراني كان متورطاً في الفظائع التي ارتكبت بحق السوريين خلال السنين الماضية، ولكن قد لا يكون للسوري المكلوم والمظلوم خيار في قادم الأيام إلا بالتعالي على جراحه والتسامي على روح الانتقام والتشفي، بالنظر إلى عدة أمور لا مجال لتجاهلها أولها أن الثورة الإسلامية في إيران كانت أولاً ثورة شعبية جلبت نظاماً إسلامياً في المنطقة وإن كان شيعياً فقهياً، وبعيد هذه الثورة مباشرة جرى الحديث غربياً عن سقوط محتمل لأنظمة عربية في دول مثل سوريا والعراق، رغم أن السوريين يكادون يكونون شديدي العداء للنظام الإيراني الحالي ويضعوه في سلة واحدة مع إسرائيل، إلا أن الثورة التي جلبت هذا النظام كانت ثورة شعبية ومطالبها تعبر عن أحلام وآلام الشعوب الإسلامية في المنطقة وقتها، إنها ثورة إسلامية بنكهة عالمثالثية.



إن هذا التناقض بين صورة الثورة ووليدها (النظام الخميني) يعبر عن إشكالية العلاقة مع إيران وأن لا أحد من السوريين يمتلك إجابات بسيطة في هذا الصدد، وقد عاينا ذلك خلال العدوان الأخير عليها من قبل اسرائيل، بل استدعت توجلاً وتأهباً تركياً وباكتسانياً وحتى خليجياً، يرقى لموقع إيران الجيوسياسي ولثقلها القيمي وإن كانت مختلفة وعدائية في بعض الأحيان. 



إن أخطاء النظام الإيراني في العراق وسوريا لا تنفي حالة الإعجاب بقدرة إيران على تنمية قدراتها العسكرية بجهود ذاتية وعقول علماء إيرانيين في وقت تشعر كل شعوب المنطقة أنها بحاجة لمزيد من الاستثمار في هذا الميدان لمواجهة صلف غربي وإسرائيلي، وإذا كانت مهاجمة العراق وتدميره باعثاً على تبني توجهات متطرفة بعد العام 2003، فإن الهجوم على إيران سوف يزيد السخط في العالم الإسلامي، ويؤكد الفكرة بأن هذه البقعة من الأرض مستهدفة بشدة من أعدائها.



برنارد لويس مرشداً 


يرى المستشرق المؤرخ البريطاني الأمريكي برنارد لويس والمعروف بتأييده لإسرائيل وكذلك اهتمامه بقضايا العالم الإسلامي وتاريخه ولغاته، أن القضية الفلسطينية ليست قضية العالم العربي والإسلامي الوحيدة، ولا يجب أن تكون القضية الأثيرة، ويزيد على ذلك أنها أخذت حقها، وهيمنت على عقول العرب والمسلمين على حساب حالات إجحاف أخرى في العالم الإسلامي لا يمكن تجاهلها (إنهاء الوجود الإسلامي في أسيا الوسطى من قبل روسيا، أفغانستان، مذابح حماة في سوريا، مأساة المسلمين الإيغور في الصين، الروهينغا، 8 سنوات دامية من الحرب العراقية الإيرانية وما خلفته من فظائع) ولو كان حياً بيننا الآن لأضاف إليها جرائم نظام بشار الأسد بحق السوريين. 



وهو يلمح كذلك إلى أن الاستقلال لا يعني الحرية، والترادف الذي كان شائعاً في الخمسينيات والستينيات، بين المصطلحين استقلال وحرية، بدأت الشعوب الإسلامية تكتشف عبر تجاربها الدامية أن هناك فرقاً شاسعاً بين الاثنين وأن الاستقلال لن يعطي الحرية السياسية والحقوق المدنية للأفراد وهذا واقع العالم الإسلامي من وجهة نظره، العالم العربي والإسلامي مثال حي على ذلك، فما معنى أن يأخذ الفلسطينيون دولة لا يُسمح لها أن تحيا إلا تحت هيمنة إسرائيل؟ وإذا استطاعت الهروب من هذا المصير فإنها سوف تنضم لأخواتها في العربي الواقع تحت هيمنات عدة، وستكون في أحسن الأحوال دولة من دول النظام العربي الفاشلة، لن تعطي سوى القمع.

 لقد سعى لويس جاهداً لتمييع القضية الفلسطينية وإظهارها على أنها غبن تاريخي يضاف إلى مآسي أخرى في هذا العالم المتوحش والدموي، وهو لا يذكر نهائياً أي مسؤولية لإسرائيل أو الغرب في تشكيل هذه المأساة، إنما يكتفي بالتركيز على نظيراتها الإسلامية من حيث التشكيل والأسباب والأطراف المتناحرة.



وفي استشراق نادر للمستقبل، لاحظ لويس في كتابه أزمة الإسلام أن صورة الشيطان في القرآن الكريم تحيل إلى معنى الإغواء والخداع، فيما صورة الشيطانين الأكبر والأصغر المفترضين من قبل إيران (أمريكا وإسرائيل) هما مثالين على الغطرسة والقوة المفرطة الغاشمة، ولا يمتان للصورة القرآنية عن الشيطان بصلة، فهل أخطأت إيران في تشخيص عدوها وشيطانها ومحيطها العربي.

شارك