كعجلة بلا فرامل يدوس نتنياهو بشعار حربه الوجودية على كل شيء، جنون لا سقف له، وتوحش لا عثرات أمامه، ممنوع التقاط الأنفاس ولا خطوط حمر، فإما أنا أو لا أحد.
توصيف لم يتقاطع طوال الأشهر القليلة الماضية مع المقاربة الإيرانية لما يدور في عقل الرجل ومن خلفه الولايات المتحدة التي تلاعب الشرق الأوسط على حبال عدة.
أقرت إيران على لسان الكثير من مسؤوليها أنها مارست مرارة ضبط النفس طويلا وحاكت خيوطها السياسية بصبر استراتيجي كما تحيك خيوط سجادها، إفساحا بالمجال للغة التفاوض ووعود وقف إطلاق النار على جبهتي غزة ولبنان، ليتضح فيما بعد أن الجمهورية وقعت في كمائن الدبلوماسية الدولية التي منحت نتنياهو بشكل أو بآخر الوقت الكافي لإعداد سيناريوهات الجنون على الطاولة.
كان ذلك واضحا لحظة استفاق جنوب لبنان على تصعيد في الحملة الجوية الإسرائيلية بشكل متسارع والذي كان سبقه ضرب العصب الأساسي لحزب الله من خلال تفجير أجهزة اتصالاته وسلسلة اغتيالات متتالية وصلت مؤخرا إلى أمينه العام حسن نصرالله، في ضربة دوت ارتداداتها في طهران حيث تساقطت الخطوط الحمر تباعا، وحانت لحظة دفع أثمان التردد والجموح نحو الدبلوماسية والخيارات السياسية المتلكئة مع عدو أطلق صفارة حرب بلا ضوابط وفتح النار على المنطقة برمتها بقرار أمريكي ودعم غربي مفضوح.
سلمت إيران بتعرضها لخديعة كبرى، وخرجت بعباءة مرشدها إلى ساحة المواجهة، ضربت إسرائيل بأكثر من مئتين وخمسين صاروخا باليستيا، تأهبت المنطقة والإقليم وأعلن نتنياهو عن الرد الآتي، تبعته إيران بتأكيد الرد على الرد وهكذا، لكن ماذا بعد التهديد والتهديد المضاد؟ وإلى أين تسير رياح ما تشتهيه الأطراف اللاعبة على المسرح الإقليمي ؟ سؤال لا يملك مفتاح إجابته أحد حتى الآن، فالعين شاخصة باتجاه الحدود الجنوبية للبنان وصمود عناصر المقاومة في التصدي لمحاولات التوغل البري للعدو، وتأهب اليمن والعراق لتصعيد المواجهة، واتصالات تجري على قدم وساق منعا للانزلاق نحو حرب إقليمية شاملة يحرق لهيبها الجميع.
مما لا شك فيه أن قوى المحور وعلى رأسها حزب الله تعرضت لانتكاسة مدوية، لكن قراءة تبعات الأحداث الأخيرة تشي بأن المساحة الرمادية التي لعبت فيها إيران مطولا تقترب من خط النهاية وأن رفع الأسقف لدى جميع الأطراف هو عنوان المرحلة الراهنة بانتظار أن تنخفض شيئا فشيئا حال الجلوس على مستديرة التفاوض.
على الجانب الإسرائيلي الذاكرة لا تخون فمنذ اليوم الأول للحرب على غزة، رفع نتنياهو شعار الحرب الوجودية وقرأ في عملية «طوفان الأقصى» ما يتجاوز العملية العسكرية المحدودة، وأنها تعني أن أعداء إسرائيل سيسعون إلى إزالتها متى تمكّنوا من ذلك، لتبيّن خلال عام أن كل إسرائيل تُفكّر بالطريقة نفسها وأن ما يجري هو حرب وجودية حقيقية، وبالتالي فإن من خاف من أهل الكيان حمل أمتعته وغادر، وسيُغادر آخرون تباعا، فهؤلاء لا يريدون تحمّل الأثمان بل يحلمون بكيان مستقر ومزدهر من دون أن يتكلفوا عناء خوض المعركة الكاملة، ويُنظر إليهم في الداخل الإسرائيل كمجموعة من الخونة والانتهازيين الذين فرّوا من أرض المعركة. و هكذا اتجهت غالبية كبيرة جدا من مستوطني الكيان صوب اليمين ونمت الأحزاب الدينية القائمة على أساطير من خلال الحملة الدعائية التي قادها نتنياهو نفسه حاملا التوراة حينا وخريطة ما يسمى بإسرائيل الكبرى حينا آخر، لكن ذلك لم يجد أصداءه كثيرا لدى المجتمعات الغربية التي ما زالت تخرج منددة بالإبادة الجماعية والمذبحة الحاصلة في غزة.
مع ذلك، فإن نتنياهو لا يقيم وزنا لكُلّ هذا، فهو يتعامل مع الحقيقة الموجودة داخله، والتي تقول أمراً واحداً: نحن نخوض حرباً وجودية، تتطلّب كل أنواع الجنون، والدماء والأثمان.
غليان يستمر ولا أفق سياسي ينهي دوامة الموت والدمار، بانتظار ما سيسجله الميدان في المقبل من الأيام، وهي معطيات وحدها تتكفل بسحب بساط الحرب المستعرة من تحت أقدام الجميع والذهاب بهم إلى جملة من التسويات والتنازلات المتبادلة التي تجنب المنطقة برمتها شرارات اللهيب المتفجر في غزة ولبنان.