مجتمع

بين النقد أداة للتصحيح والمقارنة أداة للتشفي

يونيو 18, 2025

بين النقد أداة للتصحيح والمقارنة أداة للتشفي

دفع السوريون على مدار عقود ثمناً باهظاً من أجل حريتهم وكرامتهم وبدؤوا أخيراً يحلمون بوطن يليق بتضحياتهم ويتطلعون إلى حصاد ثمار سقوها بدمائهم، ويعبرون من منطق الثورة إلى منطق الدولة بمسؤولية ووعي، وغيرة على المكسب الهائل المتمثل بسقوط النظام وانتصار الثورة، بوسائل قبول ورفض تُجسّد مبدأ المواطنة، فالكل شريك في البناء الآن.



لكن الواقع لا يشبه الأحلام، وإرث الخسارات والدمار يتطلب جهداً عظيماً وصبراً طويلاً، فقد ترك الأسد بلاداً منهكة منهوبة الاقتصاد ومفرغة من مؤسسات فاعلة وخبرات إدارية حقيقية، وسوريا التي لم تكن يوماً ملكاً لأبنائها تقف اليوم أمام تحد غير مسبوق في إعادة بنائها بأياد ما تزال تتعلم و تجرب وتحاول وتخطئ تارة وتصيب تارة في محاولة لاغتنام هذه الفرصة التاريخية. 



لم تراكم السلطة السورية الجديدة تجربة طويلة في الحوكمة ولكن يعوضها الصدق والأمانة، وتتعامل مع سوريا متعددة الأعراق والمذاهب، لغّمها الأسد قبل هروبه، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. والآن عادت البلاد لأبنائها بعد مخاض طويل ومرهق، هذا الواقع جعل الشعب في حالة ترقب شديد حيث ترتفع الأصوات وتكثر الملاحظات وكأننا نتعامل مع مولود جاء بعد سنوات من الانتظار نخشى عليه من أي عثرة أو مكروه.



لكن في خضم هذا القلق المشروع يبرز السؤال الجوهري: متى يكون النقد أداة بناء وتقويم ومتى يتحول إلى أداة تشف وانتقام هدفها إثبات فشل أي بديل عن نظام الأسد؟



النقد البناء


يمثل النقد البناء حالة صحية وضرورية خاصة في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة من تاريخ البلاد، فهو يهدف إلى تصحيح الأخطاء وتحسين الأداء دون تجريح أو تحريض ويمنح الفاعلين وصناع القرار فرصة لتصويب المسار وإعادة النظر في السياسات والخطوات والقرارات المتخذة.



يتميز النقد البناء باعتبار السياق الزمني والواقعي، ويقدم بموضوعية من منطلق الشعور بالمسؤولية والرغبة في المساهمة في التغيير. 



وغالبا لا يكتفي هذا النقد بالإدانة بل يرفق اقتراحات واقعية تناسب تعقيدات المرحلة وظروفها، والناقد في هذه الحالة يقدم نفسه شريكاً وطنياً لا متفرجاً ساخراً أو خصماً حاقداً.



استحضار الماضي كأداة لتقزيم الحاضر


بعض أصوات النقد اليوم لا تنطلق من الغيرة على الوطن، بل من رغبة دفينة في إثبات فشل البديل، تتصيد هذه الأصوات الأخطاء وتضخمها وتضعها تحت المجهر، وتفرغ المعاناة من معناها وتجلد الحاضر عند كل منعطف وكأنها تسعى لإقناع الناس أن الثورة لم تكن تستحق العناء وأن أي بديل عن نظام الأسد محكوم عليه بالفشل.



في هذا النوع من النقد يتكرر استحضار “زمن الأسد” على نحو مجتزأ وساذج من خلال مقارنات سطحية مثل: “كان الخبز أرخص”، غير آبهين بالجانب الآخر الأكبر من الواقع الأسدي الدموي. وهنا يتحول الأمر من نقد مشروع  إلى خيانة لذاكرة الضحايا واستخفاف بمعاناتهم وتجاهل مرير للواقع المرير وأنانية مفرطة تحنّ لاستقرار وهمي منحه الأسد لهذه الفئة.


  

 ما الذي يدفع البعض لمحاولات التشفي واستحضار الماضي؟



غطاء نفسي للهروب من مواجهة الذات


الكثير من الذين التزموا الحياد أو وقفوا مع النظام البائد ضد الثورة وجدوا أنفسهم بعد التحرير أمام صراع داخلي مرير، وبدلاً من مواجهة مشاعر الذنب أو تحمل مسؤولية مواقفهم السابقة يسعون اليوم لتبرير تلك المواقف والدفاع عنها بأثر رجعي، ويحاولون إقناع أنفسهم قبل الآخرين بأنهم كانوا يمتلكون “رؤية واقعية” بأن أي بديل عن الأسد سيسبب المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار. ومن هنا يتحول النقد من أداة لبناء المستقبل إلى وسيلة لتبريرالماضي، ويصبح غطاء نفسياً للهروب من مواجهة الذات. 



الخوف من المجهول والحنين للاستقرار الزائف



بعض الأشخاص يواجهون مخاوف كبيرة من التغيير، ولا يكون نقدهم الهادم نابعاً من حب للنظام البائد أو تمسكاً به بقدر ما هو خوف من المجهول والفوضى، وهنا تؤدي الذاكرة الانتقائية دوراً في تضخيم لحظات الاستقرار الزائف على أيام النظام البائد، 

وهنا يظهر النكوص إلى الماضي، ويفضل هؤلاء الأشخاص الظلم المألوف على الحرية المجهولة.


الاعتياد القهري على الطغيان



بعض العقول التي خضعت طويلاً لسلطات استبداية تفقد قدرتها على التعامل مع مفاهيم الحرية والكرامة. فترى في أي شكل من أشكال الحرية تهديداً وفي كل تجربة ديمقراطية فوضى، وهنا لا يكون رفض الواقع الجديد واعياً إنما نتيجة لحالة عميقة من التكيف القهري مع القمع والتطبيع معه.



وهنا تستحضرني العبارة المتداولة “إذا أمطرت السماء حرية ستجد البعض يحملون المظلات”، تماماً كما يكون الضوء مزعجاً لمن اعتاد العيش في الظلام. 



أهمية النضج و الأحلام الواقعية


من المهم أن يبقى صوت النقد حياً وحاضراً في وجه الخطأ، يذكّر ويصحّح ويعيد  التوازن، لكن الأهم من ذلك أن نتحلى بالوعي الكافي بأننا شركاء في البناء وفي ترميم ما كُسر ولسنا مجرد متفرجين يقيّمون الواقع. 



من المهم أيضاً أن يدرك أبناء الثورة الذين حملوا راية النضال وواجهوا الاستبداد بصوت عال ونقد حاد لسنوات طويلة كجزء من معركتهم لإسقاط النظام وانتزاع شرعيته؛ إننا اليوم أمام واقع جديد ومعركة مختلفة والأدوات والأساليب التي استخدمت ضد الاستبداد غير صالحة في مرحلة البناء حتى إن كانت متعثرة، وإننا بحاجة إلى تحول الذهنية من ثقافة المواجهة والتحطيم إلى ثقافة المساهمة والصبر والشراكة.



في هذه المرحلة الحساسة والهشة المليئة بالألغام علينا أن نكون واقعيين وموضوعيين ومتزنين في مطالبنا وتطلعاتنا، وضبط سقف توقعاتنا بأن السرعة والاحترافية في إسقاط النظام خلال 12 يوماً ليست مقياساً دائماً في ما بعد المعركة، وألا نحاكم كل خطوة أو خطأ على أنه نهاية الطريق. وفي المقابل مطلوب من الحكومة الوضوح بدل تزيين الواقع، والحذر بدل التسرع، والتفهم بدل التشنج، والإشراك بدل الاحتكار. هكذا يمكننا العبور من عقليات واضطرابات ما قبل التحرير إلى السكينة والعقلانية اللازمة للبناء.


وعلينا ألا نجعل من الثمن الذي دفعناه وسيلة ضغط تحصد ما زرعناه قبل أن ينضج،  وأن نحافظ على الحلم وأن نجعل من النقد شعلة تنير الطريق بدل أن تحرق ما نسعى لبنائه.

شارك