مجتمع

حين يتواطأ دماغ الطفل مع المعنف

أبريل 8, 2025

حين يتواطأ دماغ الطفل مع المعنف

انتشر قبل أيام على نطاق واسع تسجيل مصور صادم لأب سوري يقيم في مدينة غازي عنتاب التركية وهو ينهال على طفلته الصغيرة بالضرب بطريقة وحشية، ما أثار استنكاراً واستغراباً واسعاً، دفع بعض الصفحات لتداول الخبر على أن هذا الرجل هو زوج الأم ربما، لأن المنطق يرفض أن يرتكب أب حقيقي هذه الوحشية على طفله. 


ما لفتني في هذا المقطع المصور الذي لم أتمكن من مشاهدته كاملا من شدة القسوة أن الأب كان ينادي على الطفلة وتعود وتقف أمامه ويعنفها مجددا ولم تحاول الهرب أو الصراخ، ولم تطور آليات دفاعية. 


أعاد هذا المشهد إلى ذهني دراسة قرأتها سابقا بعنوان “الخوف في الحب: التعلق، والإساءة، والدماغ النامي”، وخلصت هذه الدراسة للباحثتين ريجينا سوليفان وإليزابيث نورتون لاسلي من خلال أبحاث أُجريت على صغار الفئران، كيفية تأثير التعرض للعنف من قبل مقدم الرعاية (الأب والأم) على استجابة الدماغ للخطر، وكيف يمكن أن تحدث تغيرات جينية ودماغية وسلوكية وهرمونية طويلة الأمد تؤثر على الضحية. 


اللوزة الدماغية، وهي الجزء المسؤول عن تحليل التهديدات ومعالجة الخوف وتفعيل الاستجابات مثل “القتال أو الهروب” قد تتعطل في حالات التهديد الطبيعية عندما يكون مقدم الرعاية المصدر المفترض للحب والأمان، هو ذاته مصدر التهديد والأذى، ويحدث إرباك في البوصلة العصبية، ولا يتعامل الدماغ مع الألم والأذى على أنه مؤشر خطير، وتتعطل استجابة الخوف لأن الطفل مبرمج بيولوجياً، بأن يرتبط بمقدم الرعاية ووجوده بقرب مقدم الرعاية يضمن له النجاة والاستمرار في الحياة، ولهذا لا يهرب الطفل من مقدم الرعاية المؤذي، بل يعيد التقرب منه ويسعى لإرضائه بغض النظر عن السلوك الصادر عنه، وهذا التشوه تنقله الضحية جينيا ووراثيا لأبنائها بحسب الدراسة. 


من المهم الوعي بفكرة أن دماغ الطفل عبارة عن بنية معقدة شديدة الحساسية تحتاج إلى توازن دقيق للمواد الكيميائية مثل الكورتيزول والدوبامين، اللذين يتفاعلان في الدماغ لضمان نمو صحي، إلا أن الصدمات والإساءة خاصة في مراحل مبكرة تسبب اختلالا في هذا التوازن، خاصة عندما يكون مصدرها “دائرة الأمان”، ويؤمن الطفل بفكرة أنه لا يستحق الحب دون أن يدفع ثمنه ألماً، ويتكون نموذج داخلي مشوه للذات والآخرين، وما يحدث للطفل في بيئة مؤذية لا يبقى في الماضي بل ينتقل معه إلى كل علاقة، ويؤثر على كل قرار وكل صورة يحملها عن نفسه وعن الآخرين.


 

هذا النمط من التفاعل يعرف في علم النفس بـ”الارتباط المؤذي ـ trauma bonding“، وهو الحالة التي يرتبط فيها الحب بالألم والأذى، ويفسر لنا هذا المفهوم ميل بعض الأشخاص إلى الدخول في علاقات عاطفية مؤذية يكررون من خلالها تجارب الطفولة، ليس لأنهم فقدوا الإحساس بالألم بل لأنه أصبح مألوفا، ولأن دماغهم اعتاد الخلط بين الحب والألم، ويحدث تكرار قهري يحاول الفرد من خلاله إعادة المشهد الصادم، على أمل إصلاحه أو التعامل معه بطريقة مختلفة، أو لمحاولة تفسيره وفهمه، لكن النتيجة غالباً تكون نكأ الجراح بدلاً من شفائها.


  

أوقفت الشرطة التركية الأب عقب انتشار الفيديو وحولته إلى النيابة العامة التي قررت حبسه على ذمة التحقيق، وأعلنت ولاية غازي عنتاب في بيان رسمي أن الطفلة سُلّمت إلى رعاية مديرية الأسرة والخدمات الاجتماعية، حيث وضعت تحت الحماية لضمان سلامتها الجسدية والنفسية. من المؤكد أن هذه الطفلة حالفها الحظ عندما وُثّق وسُرّب ما تعرضت له من ألم، وربما هذا الألم هو فرصتها للنجاة، وتلقي الرعاية الصحية والنفسية التي ترمم جراحها، وتمنحها فرصاً لبناء مفهوم صحي وسليم عن الحب والأمان في دولة تراعي ذلك وتتحرك لإنقاذها وحمايتها، لكن المؤلم والمقلق هو عندما نتخيل حياة العديد من الأطفال خلف الأبواب المغلقة، يتعرضون للعنف الذي يشوه عقولهم وينهك أجسادهم، دون كاميرات أو شهود على الجريمة، لهذا يجب ألا نكتفي فقط بإدانة العنف، بل من المهم أيضا فهم تبعاته وتأثيره العميق على البنية النفسية والعقلية وكسر ثقافة الصمت والتبرير ونشر الوعي بأن الطفولة ليست مرحلة مؤقتة بل هي تربة خصبة، والتجارب التي يمر بها الطفل هي البذور لما سيثمر لاحقا، وآثار العنف كثيرة وخطيرة على الفرد والمجتمع ولا يمكن حصرها بالأفكار التي تناولناها في هذه المقالة.


 

دور المجتمع في كسر حلقات العنف ومنع انتقاله بين الأجيال:


في الدراسة التي أُشير إليها بما يخص آثار التعنيف على أدمغة الأطفال، لم يكن المقصود فقط الحالة الشاذة من العنف كما حدث مع الطفلة في غازي عنتاب. هذا النوع من العنف الشديد والمتطرف قد يرفضه حتى الآباء الذين يعنفون اطفالهم لكن بصورة أقل شدة باعتبار أن التعنيف يشمل مستويات وأنواعاً مختلفة، مثل العنف الجسدي والنفسي واللفظي وغيرها، ولكن ماذا عن أشكال التعنيف الأخرى التي يطبع معها المجتمع ويبررها.


 

في حالات تعنيف الأطفال والإساءة لهم لا يكفي توجيه أصابع الاتهام إلى المعنف، لأنها مرتبطة بمنظومة متشابكة من الصمت والتبرير والتقصير تبدأ من الأسرة وتمتد لتشمل العديد من مؤسسات الدولة والمجتمع. العنف في الطفولة لا ينتهي بل يعيد إنتاج نفسه من جيل إلى آخر، فالأب الذي يضرب طفله اليوم قد يكون هو نفسه ضحية في طفولته للتعنيف، ولم يتلق الحب إلا مصحوبا بالألم، وقد يورثه لأطفاله لاحقا بنفس الطريقة المشوهة، وهنا يأتي دور المجتمع بنشر الوعي الذي يعيد تعريف السلطة الأبوية ويقدم خدمات الدعم النفسي والتأهيل المجاني للآباء والأمهات، وتفعيل دور المؤسسات التعليمية بحيث لا تنحصر أهدافها على نقل المعرفة فحسب، بل تكون بيئة داعمة للطفل تلاحظ أي بوادر تشير إلى أن الطفل يتعرض للإساءة، وتكون فيما بعد قوانين حماية الطفل فعالة ويتم تطبيقها لتكون درعاً حقيقياً يحمي الطفل، لا أن تكون الثقافة القانونية تبرر العنف باسم الخصوصية الأسرية.

شارك

مقالات ذات صلة