مدونات

القيد السجان: أوسلو باعتبارها صكًا جازمًا للدول العربية

مايو 18, 2025

القيد السجان: أوسلو باعتبارها صكًا جازمًا للدول العربية

الكاتب: مصطفى نصار

 

فتح من فصيل محوري للمقاومة إلى أداة في يد الاحتلال: البداية تأتي من محمود عباس.
في مارس الماضي، عقد الرئيس الفلسطيني محمود عباس مؤتمرًا صحفيًا غريبًا هدفه التنديد وشجب عودة الحرب الإبادية على أهالينا في غزة، ملقيًا اللوم على المقاومة بدرجة أكبر في استئناف الحرب، دون حتى أن يقول للاحتلال كلمة بعيدة عن توقف العمليات السرطانية في الاستيطان الصهيوني، وكذلك العمليات العسكرية في الضفة الغربية، الذي بدوره سلط أجهزة الشرطة والأمن الفلسطيني لمساعدة الاحتلال في محاولة القضاء على جنين ومقاومته، قبيل ثلاثة أيام من مقتل شذى صباغ، الطالبة الصحفية في جامعة القدس، منتهيًا من مؤتمرات بمؤتمر يصف فيها مقاومة غزة بلفظ نابي، لا يدل إلا على حقارة ووضاعة رسمية، سبق لها سنوات من تحويل مدمرة لفتح، من فصيل مقاوم، لمجرد أداة وظيفية لقمع الشعب الفلسطيني.


بشكل عام، وبانورامي أيضًا، جاءت فتح بعدما انبثقت عن منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت بمثابة مظلة كبرى لكل الأفكار المقاومة التالية، وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي، ولعل هذا ما دفع إيلان بابيه في كتابه التطهير العرقي في فلسطين لإبداء نبرة استعجابية مبررة من حجم تغيير حركة فتح لتتحول لخنجر مسموم في ظهر الفلسطيني.

ترجع بدايات هذا التصدع الفج، والانشقاق الفلسطيني–الفلسطيني، إلى مؤتمر مدريد، وعدة مؤتمرات بعدها، سجلها المناضل والمقاوم صلاح خلف، الذي اغتيل في تونس عام 1991 على مقهى، وقد اعترف بوضوح أن المقاومة المسلحة حل لا نقاش فيه، وأن المفاوضات “البالية” مع الاحتلال الإسرائيلي مصيرها الرمي لصندوق القمامة، بعكس المهندس لاتفاقية أوسلو مع الاحتلال قبلها قرابة خمس سنوات مع شخصيات إسرائيلية عامة مثل يوسي بيلين، وزير العدل. فكانت النتيجة المنطقية من الطرف الإسرائيلي في المفاوضات المخزية أنه وافق، حتى اعتبرها شارون السفاح نصرًا سيلاحقه بعدة مكاسب، في كتابه الشرق الأوسط الجديد.


ولم يتوقف التقليص السياسي والقصقصة التحويلية التي شارك فيها محمود عباس بعد أوسلو حفاظًا على مصالحه الضيقة، منذ ما بعد الانتفاضة الأولى، فالانتفاضة الثانية أسست بذلك فك الارتباط، مع الإشارة لحصار قطاع غزة منذ عام 2005، ما أسس تصدعًا واقعيًا بين حماس وفتح، لأنها لم تتبنَّ نهج الأوليين، مثلما أشار الشيخ المؤسس أحمد ياسين في مقابلته مع الإعلامي المخضرم أحمد منصور، لينتهي الشقاق بينهما بانفراد حماس بالقطاع بعد فوزها بالانتخابات البرلمانية والتشريعية، والتي شكك محمود عباس، الذي تولى سلطته الحالية منذ 2004 عقب اغتيال عرفات في باريس في 11 نوفمبر 2003.


علاوة على ذلك، ثمة أبعاد أخرى لأوسلو، تحولت بها الدولة بأكملها لدويلة متصهينة، لا تريد إلا راتب آخر الشهر، بل إنها رسمت شكل الدولة ليس فقط على مستوى الأمن والسياسة، بل أيضًا على صعيد الحاضر والمستقبل. بعبارة أخرى: خديعة القرن المقيدة للدولة الفلسطينية، لتغير بذلك مفهوم الردع من مواجهة العدو والتحرر الكامل لقضية تلزمها حل سياسي، وهو حل مخلّ، قاصر، مناورة، لعدة أسباب، منها إغفال البعد التحريري الذي يقوم عليه الجهد المقاومي، باسطًا أرضية قائمة على القيد الحابس، بل و”تحول المقاومة لتهور متسارع” بحد توصيف منير شفيق في كتابه بين استراتيجية التحرر الكامل، والحل السياسي، ليطرح بذلك رؤية صارمة للمقاومة لا باعتبارها دفاعًا وممانعة مجردة، بل حلًا لخديعة القرن بحد تعبير الدكتور مصطفى البرغوثي.

وبذلك، تحولت فتح من فصيل محوري للمقاومة عبر نصف قرن من الزمان، مسجلة الكثير من الانتصارات التاريخية الفريدة، والمكتوبة بأحرف من نور ساطع، لحركة مصالحية خدمية للاحتلال الإسرائيلي قبل طوفان الأقصى، الذي كشف أوجه أوسلو الكبرى، المتمثلة في اتفاقيات العار والمهانة، التي تحولت لطوق نجاة للأنظمة كلها، للتنافس والتعاون المحموم، لنكشف وجوهًا جذرية في التاريخ الحديث عند ظهور ما يعرف بالشرق الأوسط الحديث.


الشرق الأوسط ما بعد الطوفان: حلم إسرائيل الكبرى قد تحقق بالفعل!!
في المجمل، النموذج الخاص بمحمود عباس في غزة، الذي يرتكز على التخوين والانبطاح، ليس إلا حلقة منفصلة في ظل استمرار الذل للآخرين، وعلى رأسها الغرب وأمريكا، حتى بلغ ببعض المؤلفين المتخصصين في العلاقات الدولية تأليف كتب تنطلق من هذا المنظور الواقعي، الذي طالما وُصف بالمبالغة الزائدة وعدم التفريق بين الدبلوماسية والصبر والمفاوضات الرابحة للطرفين، لتعود أوسلو بذاتها بسؤال هام: أي مفاوضات قد أتت بثمار مفيدة مع محتل “يلعن الإبادة الجماعية والمحو العرقي”، وأنت تسلم له باعتباره حليفًا وشريكًا، متخطيًا بذلك حتى زمن المذلولين، كما وصف برتران بادي في كتابه؟

كما يعطي تاريخ نشأة الدول العربية كلها، من البحر إلى النهر، فكرة بأنها إما دول فاشلة لن تكمل قرنًا ونصف دون أن تموت وتتغير شاءت أم أبت، بالطريقة المخصصة بها، سواء بثورة مسلحة مثلما حدث مع نظام بشار الأسد وأبيه، أو حتى نظام القذافي، الذي ضُرب رأسه بالنعال حتى الموت بعد قرابة 45 عامًا، أو الأنظمة الخليجية والملكية المبنية بالأساس بالتنسيق والتحالف الوطيد مع المحتل الإنجليزي، بعد حروب قبلية طاحنة، مثل إشارة روبرت ليسي وألكسندر ديروت في كتبهم عن نشأة وتكوين الوطن العربي الحديث.


في كتابي العالم الإسلامي المعاصر، واستراتيجية الاستعمار والتحرير، يؤكد أستاذ الجغرافيا السياسية والمختص في الإسرائيليات جمال حمدان أن التحرير تغير حصرًا في العالم العربي من مفهوم حيوي نابض بالحياة إلى سيولة وهوان وخنوع سياسي وفكري، بانضمامهم للأحلاف الخاصة بعدم الانحياز، وعدم التدخل في شؤون الدولة، لإغفال أو تذويب العمق والتعقيد الذي تتمتع به القضية الفلسطينية، حتى تحولت لقضية طي النسيان، مع نجاح جزئي للثورة المضادة في جميع أنحاء الوطن العربي، حتى قال عنها البروفيسور المحكوم عليه بالسجن في فرنسا فرنسوا بورجا بمنتهى الوضوح، والتي تثبته السياسات الخارجية لتلك الدويلات العربية: “الدول العربية تود أن تقضي على المقاومة في فلسطين”.


فمع الدعم الاقتصادي والسياسي واللوجستي، وتزايد متصاعد للقمع والبطش والإغلاق المتزايد للمجال العام، لا يدع مجالًا للشك ولا الارتياب لوهلة أن الجميع، جميع الدول المطبعة باختلاف مسميات صكوك العبودية المسماة زورًا اتفاقيات التطبيع، بدءًا من كامب ديفيد، مرورًا بوادي عربة، وختامًا باتفاقيات أبراهام، ما هي إلا طوق استبعاد واستباحة علنية لدول مشوهة، وشُكلت متأخرة لتقف بكل قوتها لمواجهة التغيير الحتمي، وقد فشلت بالفعل، كما أشار الدكتور بشير نافع أستاذ علم السياسة والتاريخ العربي المعاصر، لنقف بذلك عند مفترق طرق ضبابي، مع سؤال: أين النجاة؟ ولمن العقبى اليوم؟!


العقبى لله ثم جنوده المخلصين: الطوفان عقار عملي
على هذا الصعيد، يأتي الأستاذ الفخري لسياسة الشرق الأوسط، وأستاذ الفكر الإسلامي المعاصر والحديث، محمد مختار الشنقيطي، ليفرد أحد أجلّ مآلات الطوفان، متمثلًا في إعادة إحياء القضية الفلسطينية على كافة المستويات في الصدارة، ما دفع لعودة الزخم مرة أخرى حولها، سواء في فرحتهم أو كربتهم، من النكبة إلى الطوفان، الذي أتى معريًا للجميع.

أقام أهل غزة أيضًا على الشعوب أولًا قبل القادة حجة دامغة، بما لا يدع مجالًا لهمزات المنسقين، وتحطيمات وبذاءات المنسقين الأمنيين والوسطاء، مؤكدين بذلك أن العالم العربي بوصلته فلسطين، فأينما تنظر لأسباب وتفاقمات الكوارث الداخلية في أي بلد عربي، مسببها الأول له علاقة وطيدة بالكيان السرطاني، الذي سرق غاز مصر، ومياه الأردن والضفة، ووجّه أموال السعودية والإمارات للحفلات الصاخبة والليالي الملاح، وسبب للمغرب أزمة سياسية بتخليه كليًا عن ملف الصحراء، وجعل محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية ضعيفًا مقيتًا، معمقًا الاغتراب السياسي، كما قال عابد أبو شحادة في مقال له على ميدل إيست آي.


فالسلطات العربية، أو ما يعرف باسم أصحاب المعالي والفخامة والسمو، ليسوا إلا أدوات مصلحية لعروشهم، ورضاهم لترامب ونتنياهو أهم وأجدر بالانتباه والإسراع لتنفيذ أوامره وتعليماته، حتى لا يقع ما قاله نتنياهو نفسه في الخطاب الشهير يوم الثلاثاء 11 أكتوبر عام 2023، عندما شدد على ثقته بالحلفاء من الدول العربية، والتي لو كان بمقدورها محو فلسطين كلها، وأولها غزة، لفعلت، لأنها لم تكشفهم فقط، بل نسفت الأساس الشرعي الذي بُنيت عليه تلك الدول من الأصل، متجسدة في أطروحة الدكتور عبد الوهاب المسيري: الدولة الوظيفية.

فتخطي تلك الرؤية من مجرد تفسير لمعضلة عربية قائمة، تتمثل في الخذلان الرسمي بكلية وشمولية، والشعبي بطريقة أقل وأصغر، لمحور السياسة الحياتية، فالمواطن العادي في المغرب مثله في مصر، يعاني ويجاهد فقط ليكون إنسانًا، دون أن يوسع رؤيته الضحلة وراء حدود أرضه المنتهية برسومات لحقبة الاستعمار، لتحقيق السلام المتوهم والاستقرار السكوني، مثلما أشار ديفيد فرومكين، لكن دون أن يخطط باستراتيجية طويلة المدى، ليشاهدوا منطقة وصلت أوج لحظات انفجارها، وبمنتهى الجهل والسفاهة، يحاولون استخدام الأساليب السلطوية القديمة، التي أشارت لها حنة آرندت وجوديث بتلر في كتابيهما السلطويات وفي مفترق الطرق.


ليتبلور الحل الوحيد في دعم جنود الله الأوفياء، الذين ضحوا بكل شيء من أجل القضاء على محتل غاصب بلطجي متوحش، فقد رأينا بأم أعيننا المبادئ الميتة تبعث حية تتنفس، وبالمثل رأينا المنافقين الذين برروا بعدة تبريرات يستحي منها المنافقون أنفسهم من إطلاقها العلني، وتسويقها الاجتماعي، فضلًا عن سب وقذف وتشكيك في جدوى الطوفان شرعيًا، والسؤال يُترك لهم: أوسلو أولى لكم أم دماء وأشلاء الأطفال والنساء؟! ولن يجرؤ أحد من مشايخ ولا جوقة أصحاب المعالي والفخامة والسمو على الإجابة الوافية عنه!!

 

شارك

مقالات ذات صلة