مدونات

غزة في قلب الآية: “حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا”!

مايو 17, 2025

غزة في قلب الآية: “حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا”!

للكاتبة: فداء القدرة

 

ليست هذه آية عابرة في سورة يوسف، بل جملة كونية تختصر منطق الله في التدبير، وقانون السماء في التعامل مع الأرض حين تختنق.
هذه الآية، بما تحمله من شدة التعبير وصدق الحالة، كانت دائمًا بالنسبة لي من أعظم ما يُعزّي النفس البشرية في لحظات التمزق.
ولكنها اليوم، في ظل ما نعيشه في غزة، أصبحت وكأنها نزلت علينا، نحن، في هذا الركام، في هذا الزمن، وسط هذا الصمت الكوني الرهيب، وفي خضم موتٍ يُفترش ويُلتحف.

الرسل، وهم الصفوة المصطفاة، بلغوا من الإياس ما بلغهم… لا لأنهم لا يثقون بالله، بل لأنهم بشر، يُنهكهم البلاء، وتخذلهم أحيانًا ظنونهم، كما تُخذل الأرواح حين لا تجد للفرج سبيلاً.
وهذه اللمحة الإنسانية في الرسل تُشعرنا أن ما نحن فيه ليس بُعدًا عن الصبر، بل تمامه.
أن انكسارنا ليس نقصًا في الإيمان، بل لحظة من لحظاته الأصدق، حين لا يبقى في القلب إلا الله، بعد أن تسقط كل الأعمدة البشرية.

غزة، منذ شهور طويلة، تعيش في قلب هذه الآية.
منازل تتهدم فوق ساكنيها، أرواح تُغتال بالجملة، مجازر تتكرر بلا انقطاع، جوع، برد، خوف، تهجير، موت في كل زاوية، وأهم من ذلك: عزلة تامة، خذلان من العالم، وغُصّة بأن أحدًا لا يرى.
وفي هذه اللحظة، لحظة ما قبل الانهيار، تسكن هذه الآية بين أضلعنا.

“حتى إذا استيأس الرسل”، نحن الآن هناك.
في منطقة اليأس المشروع.
“وظنوا أنهم قد كُذِبوا”، نحن نظن أحيانًا، في لحظات الليل الطويلة، أن كل الوعود كانت شعارات، أن الأرض لا تسعنا، أن الكرامة تُجلد، والحق مهزوم.
كم مرة سأل الناس بعضهم: “أين الله؟” لا تشكيكًا فيه، بل رجاءً أن يقترب، أن يتدخل، أن لا يتأخر أكثر.


ولكن… انظر إلى ما بعد هذه الفاصلة الإلهية: “جاءهم نصرنا”.
ولم يقل: “أنزلنا عليهم النصر”، أو “خططوا فانتصروا”.
بل جاءهم.
كأن النصر كائن يسير نحوهم، يقترب، يشق دربه في الظلمة، لا يُسمع له وقع، لكنه آتٍ، بثقل الميعاد، وبدقة التوقيت الرباني.
هذا النصر، لا يتشكل بلغة العالم، ولا يتجلّى في تقارير وكالات الأنباء، ولا يُعادل بعدد الشهداء والجرحى، بل يظهر في لحظة مفاجئة، لا يُحسب لها أحد حسابًا، لأن الله هو من يكتبها.

قال تعالى في سورة البقرة: “أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب.”
أرأيتِ؟ حتى النبي وأتباعه قالوا: متى؟
هذه “المتى” لا تعني ضعفًا، بل هي قمة الصدق مع الله، حين يصير الألم أكبر من الجدران التي نخبئ خلفها مشاعرنا.
وهكذا تقول غزة اليوم: “متى نصر الله؟”
ليس لأنها فقدت إيمانها، بل لأنها استنفدت قوتها، ولأن البشر من حولها سقطوا من ميزان الإنسانية.

هذه الأرض، التي حملت الجراح منذ سبعة عقود وأكثر، تشهد اليوم معركة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً:
قصف يومي، حصار تام، تجويع، تدمير لكل ما يُبقي الإنسان إنسانًا…
ومع ذلك، تُولد في قلبها الحياة، يُولد الأطفال، تُقام الصلوات، تُنشد الأغاني، تُكتب القصائد، تُرسم الجدران، وتبقى الأنفاس دافئة، رغم كل ما يُريد إطفاءها.

 


في سورة آل عمران، يقول الله: “إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس…”
وهذه “المداولة” سنة لا تتخلف.
لكن الشعوب التي تُطهَّر بالألم، تخرج من المحنة وهي أصلب، أنقى، وأقرب إلى الله من أي وقت.
في كل بيتٍ في غزة اليوم آية تُكتَب بالدم.
في كل عين أُمّ تُودّع ابنها، وفي كل يد طبيبٍ يُنقذ حياة بما تبقى من أدوات متهالكة، وفي كل طفل يُرتل بصوته الحادّ: “باقون”، هناك وعد يتحقق.

في معركة الخندق، كانت الأحزاب تحيط بالمدينة من كل جانب، حتى قال المنافقون: “ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا”.
لكن المؤمنين قالوا: “هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله.”


والفرق بين الفريقين هو أن الأول يرى الأشياء كما هي، والآخر يرى الأشياء كما ستكون، إن بقي قلبه ثابتًا.
ولذلك حين يقول الله في سورة الشورى: “ومن يؤمن بالله يهد قلبه”، فإن هذا الإيمان لا يعني فقط التصديق، بل الصبر، والسكينة، والثقة بأن اللحظة التي يبدو فيها كل شيء ضائعًا، هي نفسها اللحظة التي يُصاغ فيها النصر.

غزة اليوم لا تطلب شفقة، ولا جمعيات، ولا بيانات تنديد، رغم أهميتها.
غزة تطلب شيئًا أعظم: أن يُعاد تعريف الإنسان في ضمير هذا العالم.
أن لا يُقاس الحق بميزان القوة، ولا يُقاس الضحايا بأرقام باردة.
لذلك، حين نقرأ قوله تعالى: “ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم” (محمد: ٣١)، نعلم أن الله لا يبتلي ليُعذّب، بل ليرفع، ليُظهر جوهر النفوس.
وغزة، في هذا السياق، ليست جغرافيا فقط، بل مرآة للعالم.
تُظهر من يساوي الإنسان عنده شيئًا، ومن لا يرى في الدم إلا لونًا إضافيًا على الشاشة.

“حتى إذا استيأس الرسل”… لم تُختم هنا، لأن القصة لا تقف عند اليأس.
بل تكتمل بـ: “جاءهم نصرنا”.
وما بعد النصر؟ “فنجِّي من نشاء، ولا يُرد بأسنا عن القوم المجرمين”.
نحن لا نعلم شكل النصر ولا توقيته، لكنه آتٍ.


لأن الله لا يَخذل.
ولأن دم الشهداء ليس ماءً.
ولأن طفلًا يُولد في خيمة ويصرخ، هو نفسه يصرخ في وجه العالم: ما زلنا هنا.
هذه الحرب، بكل وحشيتها، تؤكد لنا شيئًا واحدًا: أن الله لم يتخلَّ، بل يُعدّنا لكرامةٍ تليق بعزائمنا، ولحياةٍ لا يكون فيها موطئ قدم للظالمين.
وحتى يكتمل هذا الوعد، نبقى نردد — مع الأنبياء، لا عن ضعف بل عن صدق — “متى نصر الله؟”
ونسمع الجواب يتكرر في دواخلنا: “ألا إن نصر الله قريب.”

 

شارك

مقالات ذات صلة