مجتمع

بين مجزرتين: عن تباين الخطاب باختلاف الهوية

مايو 2, 2025

بين مجزرتين: عن تباين الخطاب باختلاف الهوية

منذ سقوط النظام في الثامن من كانون الأول/ديسمبر العام الماضي، بدأت تُطرح أسئلة مشروعة حول كيفية معالجة التوترات بين المكونات السورية التي نمت تاريخياً وتعززت في الحقبة الأسدية. وبلغت ذروة تلك التوترات حين وقعت أحداث الساحل بعد هجوم منظم لمجموعات مرتبطة بنظام الأسد، منحلة ومتمترسة في حواضنها الأهلية، شنته على قوات تابعة للحكومة السورية. تبع ذلك أعمال عسكرية قادتها الدولة في الساحل، ونتج عن هذه الأحداث مجازر بحق عسكريين وأمنيين تابعين للحكومة، ومدنيين علويين وسنة. وتعددت الجهات والأفراد المسؤولون عن تلك المجازر، ومن ضمنها قوات حكومية رسمية، وقوى مسلحة داعمة للحكومة، وأخرى منضوية تحتها شكلياً. وقد وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 1562 شخصاً في تلك الأحداث، بينهم 102 طفل، و99 سيدة، و33 من الكوادر الطبية، في تقرير مفصل عالي المهنية والمسؤولية.



إن فهم سياق الحدث لا ينفي وقوع جرائم بحق أبرياء ومسؤولية الدولة عنها، ولا يضع بأي حال من الأحوال المسوغات أو المبررات للجريمة، وإنما هو أمر مطلوب لنزع السذاجة عن أي طرح يريد أن يختزل تعقيد المشهد في استقطابات طائفية لا تصب سوى مزيداً من الزيت على النار المشتعلة.



ينزلق البعض من خلال محاولات إثبات نبذهم للطائفية في ابتذال أخلاقي وإنساني، يظهر على شكل ميل نحو نزع التعقيد عن الحدث المتشابك وتجريده من سياقاته السياسية والعسكرية، ومن كل ما يشوش عملية تسطيحه لظهوره على أنه محض هجوم طائفي على أقليات خائفة لا تريد سوى حماية نفسها في مواجهة أكثرية تعميها رغبة انتقامية على أساس هوياتي، مع نفي تام للسياسي.



وتندفع نحو الهوامش لا المتن في المشهد مشاريع فلول النظام وعصابات الكبتاغون، ومساع إقليمية ودولية لتشكيل الواقع السوري الغض، مع غض النظر عن واقع تماهي فواعل في هذه المشاريع مع بيئاتها المحلية، وتمترسها ضمن فضاءاتها العمرانية.



خلال الأشهر الفائتة، برز خطاب دق نواقيس الخطر قلقاً على مصير الأقليات في سورية، متوجساً من كل فعل أو إجراء تقوم به الحكومة الحالية، تتبناه فواعل عدة ذات مشارب ودوافع مختلفة ومتناقضة حتى. يتبنى هذا الخطاب تيار ذو طابع ليبرالي علماني وقف على الضد من النظام، وأبدى انحيازاً للثورة ولو بتمايز عن مكوناتها وحواملها في السابق. ولكن أيضاً، ينخرط ضمن هذا الطرح البنى المتحالفة أو المتمفصلة مع النظام الساقط، والتي تبحث في الوضع الجديد عن موطئ قدم، ويمثل تخندق هؤلاء في ذات الموضع تحدٍّ كبير للفئة الأولى.



ينطلق النزوع نحو هذا الخطاب من نبذ للطائفية، وهو أمر تتشاركه مع فئات وسطية عدة محسوبة على المجموع السني، يخبو صوتها وسط جو مشحون وعالي الاستقطاب. وتبرز رغبة أو حاجة في إثبات هذا التموضع المنحاز نحو الأقليات انحيازاً مجرداً بشكل متكرر مقابل أمرين:


الأول: السعي للتمايز عن مجموع عانى من ظلم النظام، تراه بابتذال الصورة النمطية طائفياً بالضرورة بسبب مظلوميته المتراكمة. وهذه نظرة لا تنفصل عن الرؤية الليبرالية الفردانية للذات والعالم، حيث الموضوعية والعقلانية تكمن في الخروج من المشهد والابتعاد عن التأثر به، وأن كل جور أو ظلم يحول الأفراد والجماعات إلى متهمين ومجرمين محتملين. وينتج عن ذلك نمط من التعالي والشوفينية، حالة أشبه بباتمان النظيف الغني الذي لم يتعرض لجور يفسد أخلاقه، في تصديه للجوكر الممتلئ بالشر بسبب مظلوميته وما تعرض له من قهر في السابق.


والسبب الثاني: ربما رضوخ أو رغبة في الاتساق مع خطاب غربي دولي مهيمن على فضاء منظمات المجتمع المدني الدولي، ومحمل في ذهنيته، بوعي أو باللاوعي، بأيديولوجيا وخطاب الحرب على الإرهاب منذ 11 سبتمبر الشهير، والنظرة الأحادية للشرق المختزل في انقسامات بين طوائف وأقليات. وأحيل القارئ هنا إلى مقال زيد محمد عن “بنى تعمية سياسية في سوريا“.



قد لا يختلف هذا التيار الآن، أو جزء منه على الأقل، بوجود مظلومية سنية محقة وقعت، وإن تعامل معها منذ البداية، وليس فقط بعد سقوط النظام، كأمر يستدعي الخوف والتوجس لا التعاطف فقط. لكن ما لا يدركه، أنه كان جزءاً من هذه الحرب، وهذه الاستباحة للمجموع السني تحت الذريعة نفسها، وهي نبذ الطائفية.



سأستعرض فيما يلي مثالاً للتدليل على ما سبق، يُظهر نمطاً متناقضاً في الخطاب في التعاطي مع مجزرتين وقعتا في ذات المنطقة بفارق 12 عاماً، وذلك بعد استطلاع تقارير لمنظمات دولية حول تلك المجازر، والتي يمثل طرحها نموذجاً عن الخطاب الذي أشرت إليه سابقاً، والذي تتماهى معه هذه الفئة وتسعى للاتساق ضمنه.



يصف تقرير "منظمة العفو الدولية" الضحايا بأنهم مدنيون في العنوان والمتن



يصادف الثاني والثالث من أيار ذكرى مجزرة البيضا وبانياس المروعة، والتي حدثت في 2013، حيث قامت مجموعات من قوات جيش وأمن النظام، مع الشبيحة وسكان علويين من القرى المجاورة، ومع بعض أفراد “حزب الله” اللبناني، بعمليات ذبح وقتل وإعدام فظيعة طالت أطفالاً وخدّجاً، وبالسلاح الأبيض من سكاكين وسواطير، وضرب بالحجارة على الرأس حتى الموت، وحرق الناس أحياء وجثثاً، وتشويه وتقطيع أعضاء، وذلك وفق تقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، وهو التقرير الوحيد لجهة معتبرة الذي وصف ما جرى بأنه “نموذج صارخ عن التطهير الطائفي في سورية”.



في حين يصف تقرير “منظمة العفو الدولية” الضحايا بأنهم مدنيون في العنوان والمتن: “عمليات إعدام المدنيين في البيضا وبانياس خارج نطاق القضاء”. ويأتي التقرير على ذكر السياق وتحليله، إذ يقول: “… يجري استهداف المدنيين في البيضا وبانياس، ولا سيما من يسكنون في محيط الأماكن التي يتواجد فيها مقاتلو المعارضة، كوسيلة متعمدة لتهجير أكبر عدد ممكن من المدنيين قسراً، بغية ترك مقاتلي المعارضة دون غطاء ودون قاعدة دعم محلية”. ويستفيض مجدداً بالقول: “وتعتقد منظمة العفو الدولية أن المدنيين ربما استهدفوا كتكتيك متعمد لمعاقبتهم على دعمهم أو تعاطفهم المفترض مع مقاتلي المعارضة، ولتهجير أكبر عدد ممكن من المدنيين قسراً لترك مقاتلي المعارضة دون غطاء ودون قاعدة دعم محلي”.



وحول المجزرة نفسها، تقرير “هيومن رايتس ووتش” “لم يبق أحد” يشير فقط مع الاقتراب من نهايته إلى أن عمليات القتل الجماعي لم تستهدف إلا السكان السنة، وعلى الرغم من هذه الإشارة، يخلص التقرير إلى أن عمليات القتل لم تتم وفق انتماء هوياتي، وإنما على أساس سياسي، إذ يقول: “يوحي نطاق القتل وإحراق المنازل والممتلكات بعد يوم من انتهاء القتال بأن الهجمات الحكومية ربما كان يقصد بها تهجير سكان مدنيين ينظر إليهم كمؤيدين للمعارضة”.



تقرير منظمة العفو الدولية حول مجازر الساحل التي وقعت في آذار/ مارس الحالي



بالمقابل، يشير تقرير منظمة العفو الدولية حول مجازر الساحل التي وقعت في آذار/ مارس الحالي، إلى هوية الضحايا في عنوان التقرير: “المجازر المرتكبة في الساحل السوري بحق المدنيين العلويين”، وتؤكد المنظمة في مواضع عدة على أن الاستهداف المتعمد جرى على أساس هوياتي، مع غياب التحليل للسياق السياسي والعسكري، على غرار تقرير مجزرة البيضا وبانياس 2013، والذي أكد في موضعين مختلفين أن المدنيين المستهدفين يمثلون قاعدة دعم محلية لمقاتلي المعارضة.



وكذلك يفعل تقرير “هيومن رايتس ووتش” حول مجازر الساحل الأخيرة، بإبراز هوية المستهدفين واستخدام المهاجمين لخطاب طائفي، وهو أمر لم يرد في تقرير مجزرة البيضا وبانياس قبل 12 عاماً.



إن مقابلة التقارير السابقة مع بعضها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون الغرض منه اجترار أي مقارنة بين الفظيع الذي حصل في كلا المجزرتين، ولا تبرير مجزرة بأخرى. فالجريمة حين تقع هي جريمة وفقط، بلا أي مسوغات أو أعذار. ولكن الغرض من ذلك هو الإشارة إلى التفاوت في طرح فئة تباين بناءً على هوية المقتول، مستنداً على ذات المنطلق وهو نبذ الطائفية.



هذا مثال لتناقضات خطاب تيار هيمن وتولى عملية تصدير السردية الثورية إعلامياً إلى المجتمع الدولي، لامتلاكه الأدوات وشبكات الوصول، وحث وابتز المجموع الثوري من النشطاء للتقولب ضمن قالب نضالي مطابق للمواصفات الغربية، يعتقد أنه سيحظى بالقبول والاهتمام الدوليين. وبذلك، فإن أي حديث عن استهداف السنة في سوريا آنذاك كان يعتبر كلاماً طائفياً منبوذاً وشذوذاً عن المقبول. ومن منطلق نبذ الطائفية، يجري إنكار طائفية النظام مرة باستنكار الحديث عن استهداف السنّة في ذلك الوقت، ومرة بإنكار انحلال النظام وشخوصه ضمن طائفته.



وهذا الإنكار للطائفية يأتي على شكل نفي الإبادة السنية، مقابل التأكيد على وجود إبادة علوية. وبالنسبة لهؤلاء، فإن المجزرة التي تستحق التعاطف في السابق كان يجب أن تكون بحق مدنيين عزل، وإن أي وجود لمسلحين بينهم هو تهمة بالتواطؤ مع المتشددين، ومدعاة لتعقيد المشهد. ولا ينسحب هذا الأداء على وقائع اليوم، فللمفارقة، تجد ذات العقلية – والتي كانت تنبذ النضال المسلح ضد آلة قتل موغلة في الإجرام – تدافع اليوم عن سلاح الجماعات المسلحة الأقلوية الذي لم يُرفع يوماً في وجه النظام وحلفائه، وربما حارب في صفوفه.

شارك

مقالات ذات صلة