يتسع خرق الحرب على محاولات نتنياهو البائسة لرتقها٬ فمن جنوب البلاد المحتلة إلى شمالها المشتعل٬ تغرق “إسرائيل” في الوحل أكثر وتسير بقدميها نحو حتفها٬ فلا تتوقف أنفاق غزة وبيوتها المفخخة عن ابتلاع جنود الاحتلال وإعادتهم بأكياس سوداء إن استطاع جند (إنقاذ الانقاذ) لملمة أشلاء زملائهم في الكمائن المركبة٬ ولا تستطيع كل مياه طبريا والجولان المسروقة إطفاء نيران الشمال٬ حيث يمطر جنوب لبنان جاره الجليل الأخضر بالنار كل يوم. وهنا يعز علينا أن يحترق الجليل٬ ولكن كما قال مظفّر النواب؛ “إمّا فلسطين٬ وإمّا النار جيلاً بعد جيل”.
يبكي أهالي الجنود في غزة قتلاهم٬ وتطالب مئات العائلات الأخرى أبنائها في المعركة بإلقاء السلاح “فوراً” ووقف القتال والعودة إلى منازلهم٬ فهم لا يريدون إرسال المزيد منهم نحو الموت وسط حرب لا نهاية لها٬ فيما يرفض “الحريديم” التجنيد والقتال بها. أما سكان الشمال المهجور٬ فيهربون من دائرة نيرانه المتسعة٬ ويقولون إنهم ليسوا متأكدين من أنهم يريدون العيش هناك بعد الآن٬ حيث تخلت الدولة عنهم.
يتساءل الصحفي الإسرائيلي أوري مسغاف في “هآرتس” بغضب عن أسباب حادثة مقتل 4 جنود وإصابة 6 آخرين بجراح خطيرة في كمين رفح الأسبوع الماضي حيث انهار عليهم منزل مفخخ صنعته لهم كتائب القسام بعناية فائقة٬ ويقول: “لماذا قُتل هؤلاء الشباب؟ ما هو هدف الحرب في غزة؟ أي قادة يرسلون جنودنا من منزل إلى منزل في مخيم للاجئين حتى يتم تفجير عبوة ناسفة بهم أو يتم إطلاق قذيفة صاروخية عليهم؟! ماذا يفترض أن يجدوا هناك؟ كتائب حماس الأربعة الخالدة التي لا تنتهي؟ أم النصر الكامل؟! أي حكومة تسمح لنفسها بإظهار مثل هذا الاحتقار لحياة أبنائها في الصباح، وفي المساء تصوت على تمديد الإعفاء من التجنيد لأبناء آخرين يبدو أن دمهم أكثر حمرة؟” (يقصد إعفاء اليهود المتدينين ‘الحريديم’ من التجنيد في جيش الاحتلال).
يقول مسغاف الغاضب: “نحن في إسرائيل نحب التقليل من شأن عدونا وقادته والسخرية منهم٬ مثلما يحب الإعلام السخرية من السنوار وأذنيه الكبيرتين وهو يسير في نفق بغزة حاملاً في يده حقيبة. لكن اتضح بعد أشهر من الحرب أننا لم نفهم السنوار. تذكّروا أنه عندما حل أنور السادات محل جمال عبد الناصر في عام 1970، كان هناك إجماع في إسرائيل على أن الرئيس المصري الجديد كان فلاحًا خاليًا من قدرات القيادة والفكر الاستراتيجي. صحيح أن السنوار ليس السادات٬ لكنه رجل مجنون يقدس ثقافة الاستشهاد٬ إنه ينظر إلى نفسه باعتباره صلاح الدين الجديد. فمن النادر أن يبرز مثل هذا الزعيم في العالم الإسلامي ليكسب مكانًا في صفحات التاريخ بعد هزيمة الصليبيين في ‘قرون حطين’ “.
يرى هذا الصحفي الإسرائيلي ما لا يراه نتنياهو -أو ربما يراه ولكن يتغاضى عنه- وهو أن الإسرائيليين يسيرون اليوم نحو حتفهم٬ فهم موجودون بالضبط حيث أرادهم السنوار. في “حرب استنزاف وعصابات بطيئة ودموية ودائمة٬ وسط كثافة سكانية هائلة٬ بلا هدف أو غاية واحدة”.
وبسبب خوف القيادة الإسرائيلية من الاعتراف بالواقع٬ والاعتراف بأن هذه الحرب لم تعد ذات معنى٬ بل “مسيرة حماقة” كما يصفها “مسغاف٬” يزداد يأس الإسرائيليين يوماً بعد يوم٬ حيث تضيع أمام أعينهم أي فرصة للخلاص من هذا المستنقع الذي تغرق به إسرائيل أكثر وأكثر٬ إذ تضيّع القيادة جميع الفرص لعقد صفقة يمكن بموجبها وقف هذا النزيف وإطلاق سراح جميع الأسرى في غزة٬ أحياءاً وأمواتا.
اليوم ودون مبالغة٬ يشعر جمهور الاحتلال بكافة طبقاته أنه ضائع وتائه٬ تماماً كتيه “بني إسرائيل” في الصحراء 40 عاماً في زمن موسى عليه السلام. حيث تفشل الدولة وجيشها في حمايتهم من نيران الحرب التي لا نهاية لها٬ وهي لا تبيعهم غير الأوهام بعدما وعدتهم بجلب “النصر الساحق” على المقاومة الفلسطينية.
لكن في ظل تقديم العائلات الإسرائيلية أبناءها طعمة لـ”قذائف الياسين” وقناصات “الغول” وعبوات “الشواظ” على أمل جلب هذا “النصر الساحق” وإن كان باهظ الثمن٬ يرى آلاف الجنود وعائلاتهم أنهم “يطعنون في الظهر” من قبل حكومة نتنياهو٬ من خلال إقرار قانون إعفاء (الحريديم) من التجنيد في الجيش. ويقول جنود الاحتياط بلغة العاجز المكسور لصحيفة “يديعوت أحرنوت” إنهم “يشعرون بالخيانة من حكومة تحشد من أجل بقائها السياسي بدلاً من الحشد للحرب الصعبة في قطاع غزة”. واصفين بأن ما يحدث “يزيد من القطيعة والعزلة بين من يتحمل عبء الدفاع عن إسرائيل ومن يتهرب منه”.
وفي ظل هذا الوضع الكارثي٬ تتعالى الأصوات الداخلية المحذرة من “إنهيار دولة إسرائيل” بالكامل٬ حيث يقول “متان فيلناي” اللواء السابق في الجيش الإسرائيلي والقائد السابق للمنطقة الجنوبية٬ في مقالة له بصحيفة “معاريف”٬ إن “الوضع الحالي يفرض عليّ القول بصوت عالٍ وحازم، إن القبول بالصفقة المطروحة حالياً مع غزة هي الأمر الصحيح بالنسبة إلى دولة إسرائيل. وعدم القبول بها -تحت ضغط المتطرفين- سيُلحق ضرراً كبيراً بالأمن القومي الإسرائيلي، وسيدفع نحو انهيار مدمّر، أمنياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً. وسيقودنا بأعين مفتوحة إلى دمار دولة إسرائيل”.
يقول فيلناي الذي كان وزيراً سابقاً للجبهة الداخلية الإسرائيلية: “أنا وكل زملائي في حركة “القادة الأمنيين” نقول إنه يجب على كل أم عبرية وضعت ابنها بين يدي الذين من المفترض أن يقودوه، عسكرياً وسياسياً، أن تعرف أننا نقاتل من أجل إسرائيل، وليس من أجل بقاء السياسيين الفاشلين المستعدين لبيعنا من أجل البقاء على كراسيهم، ولا من أجل جنون العظمة لزعماء الحركات الدينية التي تعتبر حرب “يأجوج ومأجوج” رؤيا للحل الإلهي والسبيل إلى تحقيق دولة الشريعة من البحر إلى نهر الأردن، وربما حتى نهر الفرات”. ويختتم الجنرال فيلناي قوله: “يجب أن نبذل كل ما بوسعنا من أجل فتح باب الأمل المطروح أمامنا٬ يجب أن نقطع الطريق على الانتحار الوطني وتدمير دولة إسرائيل كدولة ديمقراطية يهودية”٬ على حد تعبيره.
لكن لا يبدو أن نتنياهو يستمع لفيلناي أو غيره من القادة الأمنيين والعسكريين مثل الجنرال المتقاعد “يتسحاق بريك“٬ الذين أغرقت مقالاتهم الصحف العبرية في الأسابيع الأخيرة وتناشده بالوقوف ملياً والتفكير بما يحدث وما هو معروض٬ فهو لا يخشى على “إسرائيل” أو شعبها من “الدمار” أو “الانتحار” ولا يهمه إن وقع ذلك لأنه يسير فيه بالفعل٬ حيث يخشى نتنياهو “الأناني” -كما يصفه خصومه- فقط على نفسه وابنه يائير وزوجته سارة من “الدمار” أو “الانتحار”٬ حتى وإن أودى ذلك بالمشروع الصهيوني برمته.
وفكرة زوال إسرائيل وانهيار المشروع الصهيوني تماماً كما انهار المشروع الصليبي بعد “قرون حطين” لم تفارق نتنياهو لحظة وظلت هواجسها تسيطر عليه وعلى عائلته٬ حيث كتب نتنياهو نفسه في مذكراته التي صدرت في أكتوبر ٬2022 أنه خلال تدريبات الغوص -التي خضع لها أيام خدمته العسكرية عندما كان شاباً يافعاً- في جنوب حيفا عند قاعدة “عتليت”، أنه وقف على أنقاض قلعة صليبيّة تطل على البحر، وأخذ يسأل نفسه: “هل سنلقى نحن أيضاً مصير الصليبيين، الذين سلموا الأرض المقدسة للمسلمين بعد قرنين من الزمان؟!”.