عبد المنعم غريبي
عقب سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وجدت “سوريا الجديدة” نفسها أمام مشهد معقد، تتداخل فيه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. بلد أنهكته الحرب ودمرت نصف بناه التحتية، فيما يعيش أكثر من نصف سكانه بين نزوح ولجوء. أمّا مئات آلاف الضحايا وعشرات آلاف المفقودين فقد تركوا وراءهم ذاكرة مثقلة بالفقد وأجيالاً تبحث عن العدالة والمصير المجهول لأحبتها.
جثثٌ بلا هوية
منذ لحظة سقوط النظام السابق، بدأت عمليات البحث والكشف عن مصير عشرات آلاف المدنيين المفقودين، وشُكلت لجنة مختصة تسمى “الهيئة الوطنية للمفقودين” من قبل الحكومة الحالية لمتابعة هذا الملف المأساوي.
لا يكاد يمر شهرٌ لا نسمع فيه خبراً على مواقع التواصل الاجتماعي، يفيد بالعثور على مقبرة جماعية جديدة، أو رفاة جثث تعود لأشخاص مدنيين أطفال وأمهات ورجال، في أحد المنازل بالمدن أو البلدات السورية أو بين الأراضي الزراعية.
كان آخر هذه الكشوفات بتاريخ 2 تشرين الثاني/ نوفمبر، إذ أعلنت الفرق المختصة عن العثور على رفاة بشرية تعود لأربعة أشخاص مجهولي الهوية في قرية أثرية بريف حماة الشرقي.
كما وُجدت في قرية آبل بريف حمص الجنوبي، بتاريخ 26 تشرين الأول/ أكتوبر، رفاة عظمية تعود إلى 5 جثث مدنيين مجهولين (طفل، وامرأة وثلاثة رجال) داخل حفرة للصرف الصحي على مدخل إحدى المزارع، وفق ما صرح به الدفاع المدني.
وقبلها بأيام، أعلنت فرق الهيئة الوطنية للمفقودين العثور على مقبرة جماعية، تضم رفاة نحو 20 شخصاً مجهولي الهوية، معظمهم من الأطفال والنساء، في أرضٍ زراعية بمنطقة تل الصوان قرب مدينة دوما بريف دمشق. وكان رفاة الجثث لا توجد عليه ثياب، ما يرجّح أنّ عملية القتل تمت وهم عراة. كما أُعلن خلال الشهر الماضي، عن اكتشاف مقبرة جماعية عقب ورود بلاغ للسلطات، تحتوي رفاة نحو 170 مدنياً من أهالي الغوطة الشرقية والقرى المجاورة، في منطقة البحيرة بالعتيبة بريف دمشق.
أظهرت الكشوفات والفحوصات تعرض المدنيين لكمين نصبته قوات النظام البائد للأهالي، شمل إطلاق الرصاص وتفجير الألغام بهم، أثناء محاولتهم الخروج من المنطقة إبان الحصار المفروض على المنطقة من قبل قوات النظام البائد.
مقابر جماعية لطمس الجرائم
اتبع النظام البائد السابق سياسة المقابر الجماعية المختلطة في محاولٍة منه لطمس جرائمه الدموية أمام المجتمع الدولي وإخفاء الأدلة كلها، بالإضافة إلى إدارة الأعداد الكبيرة للقتلى منذ بداية الثورة السورية وبث الرعب في قلوب معارضيه.
وفي تقريرٍ أجرته وكالة رويترز مؤخراً، نفذ نظام بشار الأسد المخلوع بين عامي 2019 و2021 عملية سرية أطلق عليها اسم “نقل الأتربة”، نُقل خلالها آلاف الجثث من مقبرة جماعية في القطيفة إلى موقع سري في صحراء الضمير شرقي دمشق، في محاولة لإخفاء جرائم التعذيب والإعدامات.
ووفقاً لشهود شاركوا في العملية، فإنه خلال الفترة من شباط/ فبراير 2019 إلى نيسان/ أبريل 2021، كانت من 6 إلى 8 شاحنات تتحرك أسبوعياً من القطيفة إلى الضمير محملة بالتراب والرفاة البشرية، على مدى 4 ليال متتالية في كلّ أسبوع.
وأظهر التحقيق أنّ المقبرة الجديدة تضم ما لا يقل عن 34 خندقاً بطول كيلومترين، ما يجعلها من أضخم المقابر الجماعية في سوريا، ويرجح أنها تحتوي على عشرات الآلاف من الجثث، بينها جنود وسجناء قضوا تحت التعذيب، أو في المستشفيات العسكرية.
أساليب قتل وحشية
كشفت تقارير طبية وقضائية حديثة عن تفاصيل مروعة لعمليات قتل جماعي ارتكبها جنود النظام السوري السابق، بعد العثور على عددٍ من المقابر الجماعية في مناطق متفرقة من ريف دمشق وريف حمص.
وأظهرت نتائج الفحوصات الأولية لرفاة الضحايا أن بعض الجثث تعرضت لإطلاق نار مباشر وانفجارات ناجمة عن انفجار ألغام أرضية قبل دفنها، في حين وجدت جثث أخرى، وقد تعرضت للحرق والتعذيب، أو دفنت وأيادي أصحابها مكبّلة. وتشير هذه النتائج إلى أنّ الجناة استخدموا أساليب قتل متعددة ومنظمة، ما يعكس حجم الانتهاكات المرتكبة ضد الشعب السوري خلال سنوات الثورة.
أصوات العائلات ما تزال تنتظر العدالة
رغم تشكيل “الهيئة الوطنية للمفقودين” وبدء عمليات الكشف عن المقابر الجماعية، ما تزال عائلات المفقودين تطالب بخطوات أكثر جدية وشفافية في التعامل مع هذا الملف الإنساني. إذ تدعو الجمعيات والمنظمات الحقوقية إلى إنشاء بنك وطني للحمض النووي (DNA) يتيح مطابقة العينات بين ذوي الضحايا والجثث المجهولة، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي لذوي المفقودين الذين يعيشون في حالة ترقب مؤلمة منذ سنوات. كما يوجد مطالب من الأهالي بضرورة محاسبة المسؤولين عن جرائم الإخفاء القسري والقتل الجماعي، وفتح الأرشيفات الأمنية السابقة للكشف عن مصير أبنائهم، معتبرين أنّ العدالة الحقيقية لا تتحقق إلا بمعرفة الحقيقة وإنصاف الضحايا.
الآثار الإنسانية والاجتماعية
لا تتوقف مأساة المقابر الجماعية عند فقدان الحياة فحسب، بل تمتد لتترك أثراً نفسياً واجتماعياً عميقاً على ذوي الضحايا والمجتمع السوري بأسره.
عشرات آلاف العائلات السورية تعيش اليوم في حالة انتظار دائم لمعرفة مصير أبنائهم، معاناة تمتد من الحزن العميق إلى صعوباتٍ في التأقلم النفسي والاجتماعي، بالإضافة إلى تأثيرات على الهوية الجماعية والثقة بالمؤسسات. ووفق خبراء وأطباء مختصين، فإنّ عملية تحديد هوية الجثث التي يُعثر عليها في المقابر الجماعية قد يستغرق سنوات نظراً للأعداد الكبيرة ونقص المواد والأجهزة اللازمة.
في حين أنّ اكتشاف مقابر جديدة بين الحين والآخر، يذكر السوريون يومياً بعنف النظام السابق، وهذا من شأنه أن يفرض تحديات ضخمة أمام إعادة بناء نسيج المجتمع السوري المتضرر.
وهنا يبرز السؤال الذي يؤرق السوريين: هل ينال ذوو المفقودين حقهم في العدالة والمحاسبة؟
