خلال اجتماع هيئة الأركان في جيش الاحتلال تحدث أحد جنرالات الجيش قائلًا: “المشكلة ليست فقط في الفشل بـ 7 أكتوبر، بل أننا منذ ذلك الحين لم نحقق نجاحًا”، تشير هذه الإضافة إلى إدراك متزايد أن السابع من أكتوبر بفشله اسرائيليًا ونجاحه فلسطينيًا لم ينتهِ في حينه، بل هو باقٍ ويتجدد كل حين، وهذا هو الواقع الذي يُعبر عنه أداء المقاومة المتجدد وتكتيكاتها المتكيفة مع نيران المعارك واستعارتها المتكررة للحظة الانبعاث الأولى في السابع من أكتوبر بعمليات مقاومةٍ مختلفة، تمثل بذورًا للمقاومين وكيًا لوعي المحتل وإثباتًا لفشله.

 

ينعكس هذا الفشل في أوجهٍ مختلفة ظاهرةٍ وكامنة ممثلًا تبعثرًا لكل ما هدد به الاحتلال المقاومة وشعبها في السابع من أكتوبر، بدءًا بقصف جوي اتخذ شكلًا سجاديًا، مرورًا بحملة تجويع وتدميرٍ لجميع المرافق الحيوية والإنسانية من مشافي ومدارس ومخابز وخطوط ماء وكهرباء ومستودعات مؤونة ومعدات، وبعمليات إبادة جماعية لكل ما هو حي في القطاع، في سياسة حرقٍ كاملة للمكان وأحيائه انتقامًا من السابع من أكتوبر، عله لا يعود ولا يتكرر.. لكنه عاد.

 

هذه العودة هي ما تبحث فيه هذه المادة في محاولة لربط عمليات المقاومة المتجددة بلحظة الانبعاث الأولى في السابع من أكتوبر، وفي دورها ببعثرة أوراق الضغط الإسرائيلية عليها، انطلاقًا من اعتبار تكيف المقاومة الفلسطينية وقدرتها على إعادة تكرار وتنفيذ استراتيجياتها العسكرية الأولى باختلاف الظروف، بل واستحداثها لتكتيكات مركبة عاملًا من عوامل سقوط المحتل تحت مقصلة الوقت نحو فنائه فيما تؤسس المقاومة لبقائها طولًا وعرضًا في حيز الوقت والمكان.

 

التجدد في تكرار المستحيل

 

يبدو من الطبيعي والمتوقع جدًا أن يكون السابع من أكتوبر بوقائعه التفصيلية آخر ما قد يلجأ العقل الفلسطيني المقاوم والشعبي لتكراره، لا سيما مع ظروف العمل الميداني العسكري بالغة التحديات ورد الفعل الانتقامي الهائل الذي أطلقته إسرائيل وقادته أمريكا على القطاع وأهلها، وحجم الدعم اللوجستي الغربي في التقنيات والمعدات التجسسية التي تعمل بكامل طاقتها، وجميعها مسننات لم تتوقف حتى اليوم وما زالت تحاول كي وعي الفلسطينيين وتجريم مقاومتهم باستهداف الألوف المؤلفة من أبنائهم شهداء وجرحى وأسرى منذ ذلك اليوم.

 

لكن الطبيعي لم يكن يومًا مدرجًا في تكتيكات المقاومة، بل إن أبرز استراتيجياتها هي تنفيذ المستحيل وتحديه وتكراره بأكثر من طريقة، أرضًا من خلال الأنفاق و التسلل والعمليات المركبة والسعي المتواصل لتكرار عمليات خطف الجنود، وجوًا باستخدام الإسناد الشراعي والطائرات بدون طيار والصواريخ المتقدمة التي تستهدف منظومة طيران العدو، وبحرًا باستخدام الإبرار والتسلل البحري، ورغم التطور السريع في صناعة المستحيل أرضًا إلا أن الخطوات البطيئة في القفز على المتوقع جوًا وبحرًا تشي بأن سيطرة السماء والبحر هاجسٌ لا بُد وأن يُكتب له النجاح.

 

ففي الرابع والعشرين من أكتوبر المجيد 2023 تسللت قوة من كتائب القسام إلى قاعدة زكيم العسكرية جنوب مدينة عسقلان المحتلة، جوًا وبحرًا بالغوص من الحدود الفاصلة بين قطاع غزة والأراضي المحتلة 1948، وبدعمٍ جوي مساند، واستطاعت القوة أن تشتبك مع جيش الاحتلال الذي استعان بآلته الجوية في محاولة السيطرة على المقاومين، كما وجه نداءاته للمستوطنين في كلٍ من مستوطنتي زيكيم وكرميا بـ “الدخول فورا إلى المباني، وإغلاق الأبواب والنوافذ، وعدم الخروج حتى إشعار آخر.

 

ولم يستطع الجيش حسم المعركة إلا بعد ساعات أسفرت عن استشهاد منفذي التسلل الثمانية، ليُعلن الاحتلال عن العملية باعتبارها نصرًا له باستهدافه موقع انطلاق المقاومين بقصفٍ جوي، ولتعلن عنها كتائب القسام باعتبارها امتدادًا لا ينقطع عن السابع من أكتوبر. اللافت في العملية أنها تمت بعد ثمانية عشر يومًا على الالتحام القسامي الأكبر مع الأراضي المحتلة، مثبتته أن يد المقاومة ستظل ملتحمةً بالبلاد وغير منقطعةٍ عنها.

 

وهو ما أثبتته عملية المقاومة في السادس من يونيو/حزيران الحالي 2024 حين استطاعت قوة قوامها أربعة مقاومين من منطقة رفح التسلسل من خلال فتحة نفقٍ متصلةٍ بنفقٍ كبير كان جيش الاحتلال قد اكتشفه قبل عشر سنوات 2014 خلال حربه على غزة، لتمثل عملية التسلل ضربةً كبيرةً للوعي العسكري والجماهيري للاحتلال حين نجح المقاومون في إعادة تفعيل النفق تحت أنف الاحتلال وتجاوز الجدار العازل ومهاجمة مقر قيادة فرقة غزة العاملة في مدينة رفح، ما أسفر عن مقتل جندي وإصابة آخرين.

 

واللافت هُنا في العملية أنها مثلت فشلًا متجددًا آخر في حماية الاحتلال لنفسه، حين أعادت التأكيد على أن كل البلاد ستبقى لأصحابها، ما قبل الجدار وما بعده، وأن إنشاء مناطق عازلة وعمليات التجريف والهدم وإعادة هندسة القطاع لتحقيق أمانٍ أكبر لمستوطني الاحتلال هو بُعدٌ خيالي لن يُكتب له أن يتحقق، ناهيك عن أنها نُفذت في منطقة نشطة وانطلاقًا من منطقة تنفذ فيها قوات الاحتلال حاليًا عمليات تصفها بـ “التطهير” من المقاومين وعقدهم القتالية، وحتى على صعيد المواجهة فشل جيش الاحتلال في التصدي المباشر للقوة المقاتلة وامتصاص مباغتتها، ولم يحقق تقدمًا إلا بعدنا تم استهدافها بالطائرات المسيرة وهو ما يعكس تكرار الرهبة من المواجهة مع المقاومين كما حصل في السابع من أكتوبر، وربما استمرارها.

 

كمائن “مثنى وثلاث ورباع”

 

بعيدًا عن التسلل، فقد ارتفعت وتيرة عمليات المقاومة وتنوعت أشكالها بالتزامن مع بدء الاجتياح البري للقطاع في ال27 من أكتوبر 2023، وأظهرت استراتيجية المقاومة وتركيزها على العقد القتالية مرونةً كبيرة في اختيار آليات الدفاع والهجوم، وقدرةً على التكيف مع معطيات الميدان، ما أخرجها من عنق التهديد الوجودي في وقتٍ مبكر، بل وسارعت في بعض المحاور لاستهدافٍ مبكر لآليات الاحتلال المستعدة لبدء الاجتياح، ففي الثاني والعشرين من أكتوبر أعلنت المقاومة إيقاع قوة إسرائيلية مدرعة في كمين محكم شرق خانيونس بعد عبورها السياج لعدة أمتار ما تسبب بإصابة 4 جنود أحدهم حالته حرجة، وأما بُعيد الاجتياح فقد تجلى ذلك في كمائن المقاومة المركبة بدءًا من 31 أكتوبر، والتاسع والثاني عشر و السادس عشر من نوفمبر حين استطاعت المقاومة تدمير مبنى تتحصّن فيه قوة إسرائيلية ببيت حانون شمال غزة، فضلًا عن “تدمير 21 آلية كليًا أو جزئيًا في كافة محاور التوغّل” في قطاع غزة.

 

وإبان انتهاء الهدنة الإنسانية عادت كتائب المقاومة لتنفيذ كمائنها بصورة أقوى، بدءًا  من الثالث من ديسمبر بكمين جحر الديك، ومن ثم كمين الشجاعية، وكمين جحر الديك الثاني، وكميني حي الشيخ رضوان وحي الكرامة، وكمين حي التفاح، وكمين القرارة، وكمين جباليا، وغيرها من الكمائن اليومية والأسبوعية التي استخدمت فيها استراتيجيات مختلفة بدءًا من تفجير المباني وفتحات الأنفاق وحقول الألغام واستهداف الآليات والجيبات بالضربات السريعة المفاجئة، واستهداف الخيام ومناطق استراحة الجنود بالقذائف والعبوات الناسفة، ومن ثم الكمون واستهداف قوات الاسناد والإنقاذ بما يضمن إلحاق خسائر أكبر.

 

مع مرور الوقت تطورت كمائن المقاومة لتصبح “مركبة” أي شاملة لأكثر من آلية واستهداف في الوقت نفسه، بدءًا من كمين المغازي، وكمائن خانيونس التي نُفذت بمشاركة سرايا القدس، وكمين الزنة، وكمين المغراقة وكمين حي الزيتون، وغيرها من الكمائن المركبة التي أضحت العقد القتالية تتنافس فيما بينها على تنفيذها، وتساهم فيها بالشراكة مع فصائل المقاومة الأخرى.

 

تكرار المستحيل يعيد ذاته في عمليةٌ أخرى نفذتها المقاومة الفلسطينية بعد 232 من عمر الحرب، تحديدًا  في الخامس والعشرين من أيار المنصرم، حين نفذ مقاوموها كمينًا مركبًا في منطقة جباليا شمال قطاع غزة، شملت تفجير عين نفق واشتباكٍ مباشر مع أفراد قوة عسكرية إسرائيلية ومع قوة الاسناد بعدها، لتتمكن المقاومة خلالها من إيقاع جميع أفراد قوة الاحتلال بين قتيل وجريح وأسير، وفيما كانت فرحة المحتل تتعاظم باستعادة جثامين 3 من قتلاه، تمكن إعلام المقاومة من وأدها مبكرًا بالإعلان عن أسر عددٍ آخر من الجنود في خطابٍ كأجمل المفاجآت لأبي عبيدة عنوانه “فريقًا تقتلون وتأسرون فريقا”. مرةً أخرى مثلت العملية لحظة إعادة الزهو الفلسطيني بالسابع من أكتوبر إلى مجده الأول، كما ارتبطت ردود الفعل عليها بمصداقية خطاب المقاومة وما يصدر عنها، فما إن نفى جيش الاحتلال أسر أحدٍ من جنوده حتى سارعت المقاومة لكشف هوية أحد المأسورين مؤكدةً لجمهور العدو كذب قيادته.

 

أما آخر هذه الكمائن وأبرزها كمين بيت حانون في السادس من حزيران الحالي والذي نُفذ على 3 مراحل، الأولى تفجير عبوة رعدية وقنابل يدوية على قوة راجلة، والثانية تفجير عبوة شواظ بقوة الإنقاذ، والثالثة قنص 3 جنود بشكلٍ مباشر، حيث استمر 26 ساعة متواصلة، موقعًا خسائر جسيمة ومتسببًا بانسحابٍ فوري لجيش الاحتلال من المنطقة.

 

ورغم أن عمليات المقاومة يومية ومتجددة وبعضٌ منها مُصور ويتم بثه، إلا أن عمليتي بيت حانون وجباليا، وعملية التسلل الكُبرى في جنوب القطاع، مثلت مفصلًا مؤكدًا في تطور آليات العمل العسكري المقاوم على الأرض واستعادته لعافيته بشكلٍ كبير، رغم ما يروج له الاحتلال عن تمكنه من تفكيك نصف منظومة المقاومة وقوامها من المقاتلين، وبأن عامل الوقت الذي كان ضاغطًا على عنق المقاومة في بداية الاجتياح البري أضحى سيفًا على عنق الاحتلال لا سيما مع إدراكه أن حماس تعيد ترتيب صفوفها، وتصدير قيادات ومقاومين جدد وتغيير استراتيجياتها.

 

الاحتلال تحت مقصلة الوقت

 

في اليوم الـ 233 من عمر الحرب قصفت المقاومة الفلسطينية تل أبيب، وهز أكثر من 15 انفجارًا شوارعها وملاهيها، كما دوت صفارات الإنذار بجميع مدن وسط فلسطين المحتلة ومحيط تل أبيب في كفار سابا وهرتسيليا والمنطقة الصناعية بني براك ورعنانا، لتمثل رشقة المقاومة المكثفة ضربةً ساخنة في وعي جزء آخر من الجمهور الإسرائيلي لا تصله حرائق الشمال ولا اشتباكات الضفة والقدس ولا نزوح سكان الغلاف، لكنه أيقظ إدراكه أنه واقعٌ تحت ضغط المقاومة اليوم أو غدًا لا محالة.

 

وفي اليوم الـ 247 على الحرب تمكنت قوات خاصة إسرائيلية وأمريكية من استعادة 4 أسرى للاحتلال من قبضة المقاومة، فيما تسببت العملية بوقوع أكثر من 274 شهيدًا فلسطينيًا ممن تواجدوا في سوق النصيرات وتعرضوا للقتل العمد خلال العملية، ورغم أن العملية مثلت متنفسًا للجمهور الإسرائيلي إلا أنها على الصعيد الاستراتيجي لم تمثل إلا إلحاحًا متزايدًا لصفقةٍ وفق شروط المقاومة تكفل إطلاق سراح 120 آخرين، فعلى الصعيد العسكري لم تغير  العملية من مسار الحرب ولم تقلب طاولة المفاوضات ولم تقف في وجه استمرار عمليات المقاومة، بل أضحت ضغطًا آخر يزداد على آلة الحرب الإسرائيلية نتيجة خسارته عددًا من أسراه وقوات قتلى وجرحى في العملية.

 

وما بين يومٍ وآخر، كرٍ وفر، يوما نُساء ويوم نُسر، يزداد الإدراك أن أي إنجازٍ يمكن للاحتلال تحقيقه يكمن في تفادي ضربات المقاومة، وآلياتها المتجددة، صواريخها وأنفاقها وكمائنها وغواصيها، يكمن في التراجع إلى الخلف والانسحاب قبل أن يبتلعه المكان والوقت ووحل غزة.

 

لكن الطبيعي لم يكن يومًا مدرجًا في تكتيكات المقاومة، بل إن أبرز استراتيجياتها هي تنفيذ المستحيل وتحديه وتكراره بأكثر من طريقة، أرضًا من خلال الأنفاق و التسلل والعمليات المركبة والسعي المتواصل لتكرار عمليات خطف الجنود، وجوًا باستخدام الإسناد الشراعي والطائرات بدون طيار والصواريخ المتقدمة التي تستهدف منظومة طيران العدو، وبحرًا باستخدام الإبرار والتسلل البحري، ورغم التطور السريع في صناعة المستحيل أرضًا إلا أن الخطوات البطيئة في القفز على المتوقع جوًا وبحرًا تشي بأن سيطرة السماء والبحر هاجسٌ لا بُد وأن يُكتب له النجاح.

 
أحدث الصوتيات

مساحة مفتوحة للأقلام الشابة والعقول المبدعة، من مختلف الاهتمامات والانتماءات والبلدان.